"أحقاد رجل مرهوب الجانب" لمنصور المنصور..بطش الفلاح
2024-07-17 09:25:42
صدرت عن دار سامح في السويد، رواية "أحقاد رجل مرهوب الجانب" للروائي السوري منصور المنصور، المعتقل السابق في السجون السورية، وتسرد مسيرة حازم، وهو ابن فلاح معدم ومهان من قرية في الريف الجنوبي، وصولاً الى صعوده بعض درجات سلم السلطة، ليصبح جزءاً من آلتها التي تبطش من دون رحمة. هنا مقطع من الرواية:صيف عام 1980
حلّ الصيف.
لم يكن صيفاً ممتعاً، بل كان مليئاً بالمشاكل؛ سواء أكان للمجموعة أمّ لعموم البلد. فالصراع على السلطة ازداد حدة بين النظام الحاكم والتنظيمات الدينية. وهو صراع بدأته التنظيمات الدينية بسلسلة من الاغتيالات، ومن ثم أتت مجزرة كلية المدفعية التي جعلت الصراع يشتد ويصبح دموياً. وبعد هذه المجزرة، أطلقت السلطة يد المخابرات التي راحت تعتقل عشوائيّاً، وتزج في السجون عشرات الآلاف ممّن لا علاقة لهم بأي نشاط سياسي. وهكذا، صار الدّاخل إلى سجون النظام مفقوداً، والخارج منها مولوداً.
وكذلك حصلت مشاكل مع بعض الأصدقاء في المجموعة. فالخلافات بين حكمت وأبيه ازدادت حدة، إلى أن اكتشف الأب أنّ حكمت يشرب الخمر، فتفجر الصّراع بينهما، ولم يعد بالإمكان احتواؤه. وحدث هذا عندما زار حكمت «كازينو» لأوّل مرة، تلبية لدعوة من أحد المعارف الّذي يدعى أبا الجوج، وهو صاحب متجر في سوق الحميدية مجاور لمتجر حكمت. وبعد تناول عدة كؤوس من كوكتيل تعمّد أبو الجوج أن يصنعه لحكمت بنفسه، بدأ حكمت يدخل في حالة سكر. ولم تمضِ أكثر من ساعة حتى أصبح في حالة يرثى لها، فحمله أبو الجوج ورماه في سيارته، وقاد السيارة إلى بيت أهل حكمت. وهناك، قرع الباب، ورمى حكمت أمام الباب وغادر. وحين فتح الأب الباب، وجد ابنه مرميّاً على الأرض. في البداية، ظنّ أنّ حكمت مقتول، فلم يعد يقوى على الوقوف، بل انهار على الأرض بجانب ابنه الذي تحرّك، وتمتم ببعض الكلمات، وفاحت منه رائحة العرق. عندها، انتفض الأب، ووقف منتصباً، وتراجع إلى الخلف وهو ينظر إلى ذلك الجسد الضخم الممدد أمامه نظرة غضب واستنكار، وراح يتمتم:
- أستغفر الله العلي العظيم، أستغفر الله العلي العظيم.
ثمّ أمسك يد حكمت وهزّه وهو ينظر إلى جسد ابنه لعله ينفي شكّه. غير أنّ حكمت تمتم بكلمات نابية، ثم اعتدل بسرعة وراح يتقيّأ. وعلى الفور، فاحت رائحة القيء ممزوجة برائحة الخمر. عندها، دخل الأب البيت، وأغلق الباب خلفه، وحلف أيماناً غليظة ألّا يدخل حكمت البيت بعد اليوم. بقي حكمت مرميّاً أمام الباب لفترة. وتقيّأ أكثر من مرة. وحين استعاد وعيه، نهض وهو يحاول أن يتذكّر ما حدث له، ثمّ قرع الباب. وعندما فتح الأب الباب ورأى حكمت واقفاً أمامه، انفجر في وجهه بالسباب والشتائم، وألقى يمين الطلاق على زوجته إن دخل حكمت البيت.
عندها، ذهب حكمت إلى متجره، ونام على الأرض. وفي منتصف النهار، حضر أخ حكمت الأصغر وهو يحمل حقيبتين تحتويان ثياب حكمت، وأبلغه بقرار أبيه، ووضع الحقيبتين أمام حكمت الذي اكتفى بهزّ رأسه. إذ أدرك أنّ العلاقة بينهما وصلت إلى نقطة القطيعة، ولم تعد هناك أية نقطة تقاطع بينهما.
بعد الظهر، أتى أبو الجوج إلى المتجر. وعندما رأى الحقيبتين راح يضحك؛ إذ عرف أنّ خطته قد نجحت. فشتمه حكمت، وطلب منه أن يخرج ولا يعود إطلاقاً، فقد أدرك أنّ أبا الجوج أراد تشويه سمعته لأنّه منافسه الرئيس في السوق، وقد نجح في تحقيق مأربه. إذ نشر أبو الجوج أخباراً بين التجار مفادها أنّ حكمت مدمن على الكحول والعاهرات، وأنّ أباه رفض أن يستقبله في بيته، وها هو مشرد وبلا مأوى.
عند المساء، غادر حكمت المتجر حاملاً حقيبتيه وقاصداً بيت جمال الذي غادر دمشق قبل أسبوعين ليزور أهله، على أن يعود في بداية العام الدراسي للسنة الرابعة. إذ كان يملك مفتاح بيت جمال الّذي شكّل عش الغرام له ولسحر. وما إن دخل البيت ووضع الحقيبتين جانباً حتّى شعر أنّ عبئاً ثقيلاً أُزيل عن كاهله؛ عبء العائلة، بدءاً من أبيه ومروراً بالأقارب جميعاً. وشعر أنّه أصبح حرّاً، لا علاقة له بأحد سوى الأصدقاء.
في الوقت نفسه، حدث أن فصل أبو معين حازم من العمل لسبب لم يقله. إذ اكتفى بالقول له:
- الوضع صعب، وما قدرت حصِّل مناقصات جديدة.
إلّا أنّ حازم كان يعرف السبب، وهو تقرير قُدِّم بأبي معين يُفيد بأنّ الأخير يقدّم رِشى للعديد من الضباط في إدارة التعيينات ليحصل على المناقصات. وقد تمّ استدعاء أبي معين للتحقيق معه أكثر من مرة. ثمّ استدعى المقدم يوسف حازم. وما إن دخل حازم مكتب المقدم يوسف حتّى دار الأخير دورة حول طاولته، وتقدّم باتجاه حازم. وقبل أن يدرك حازم ما يدور حوله تلقّى صفعة على وجهه جعلته يدور حول نفسه. ثمّ سمع صوتَ المقدم يوسف وهو يهدر:
- ولا حقير، أنا أنقذتك من تهمة الإخوان المسلمين حتى تجيبلي معلومات. عم تفهم يا حقير.
صرخ المقدم يوسف بوجه حازم، فهزّ حازم رأسه وهو يردد:
- حاضر سيدي.
- هات لشوف، احكي كل شي شفتو واسمعتو في مكتب أبو معين.
أمرك سيدي.
روى حازم كل شيء رآه وسمعه في مكتب أبي معين وفي المستودعات، ولم يترك كبيرة ولا صغيرة إلّا وقالها. ثمّ دخل المساعد زاهر بناء على طلب المقدم الذي قال له:
- خود هاد الكلب وخلّيه يكتب كل شي.
- حاضر سيدي.
وبعد هذه الواقعة، غادر حازم دمشق إلى قريته في حالة يرثى لها. فاستقبلته جدّته أجمل استقبال، وبقي عندها شهراً كاملاً. وخلال هذا الشهر، سمع كلاماً أساء إليه من قبل البعض، ومنهم ثائر الصديق والعدو القديم الذي شعر أنّه أقلّ قيمة من حازم الذي يرتدي ثياباً جميلة وجديدة، ويدرس في الجامعة، وهو على وشك التخرج، بينما هو لم يحصل حتى على الشهادة الإعدادية، ويعمل مزارعاً هنا وهناك. وكان حازم من بدأ يستعرض نفسه أمام ثائر، من خلال الإنجازات التي حققها. إذ أراد أن يرسل لثائر رسالة مفادها أنّه إنسان ناجح، بينما ثائر فاشل وبائس. وحاول إهانته ببعض التصرفات والكلمات والجمل التي تعمّد قولها. عندها، عاد ثائر العدواني وقال:
- حازم، يا ابن صبحة الزانية دير بالك. لا تطوّل ولا تقصّر، هلق بمسح فيك الأرض.
فالتزم حازم البيت لمدة يومين بجوار جدته التي أصبحت حركتها بطيئة، ونال منها المرض. وبعد يومين، اضطر إلى الخروج ليشتري لجدته دواء. وبينما هو في ساحة البلدة، التقى أبا مرعي الجالس بالقرب من الصيدلية. مرّ به حازم وتجاهله، ولم يُلقِ السلام، فقال أبو مرعي بسخريته المعهودة، كما لو أنّه يحدّث نفسه:
- اي سبحان الله، يرحم أبوك يلي كانت ريحته المعفنة توصل لسابع سما.
وفي اليوم التالي، غادر حازم القرية عائداً إلى دمشق. إذ استيقظ الماضي كله دفعة واحدة، ولم ينسَ سكّان بلدته ذاك الماضي البغيض. وحين وصل إلى دمشق، كان قلبه مليئاً بالهموم. إذ فقد عمله، فسافر إلى قريته ليجد الأمان، ولكنه وجد الماضي الذي ما فتئ يهرب منه حاضراً في كلام الناس. وشعر أنّ الناس في بلدته لم ينسوا الماضي الذي لا يزال حاضراً بالنسبة إليهم؛ رغم مرور أعوام عديدة.
ذهب إلى متجر حكمت، والتقاه هناك. «فكركر» حكمت ضحكته المعتادة عندما رأى حازم وقال:
- شايفك رجعت بسرعة. ليكون حصل لك مثل ما حصل لي!؟
وروى لحازم ما حصل له، فاكتفى حازم بالقول إنّه فصل من العمل لسبب يجهله. وعند المساء، عادا إلى بيت جمال.
أمّا الخلاف بين إلهام ورشيد هذه المرة فقد كان خلافاً عاصفاً وقويّاً. وقد حدث في منطقة الشاطئ الأزرق، على ساحل اللاذقية. إذ اعتادت إلهام وعائلتها قضاء فصل الصيف سنويّاً على هذا الشاطئ. فقد اشتروا «شاليه» يقع ضمن مجموعة من الشاليهات الفخمة وحديثة البناء، ويقع على بعد أمتار من المياه، ويتألف من ثلاث غرف، وشرفة كبيرة.
وذات يوم، خرجت إلهام عند الساعة التاسعة صباحاً من الشاليه إلى البحر، وبرفقتها صبا، الشابة الجميلة التي تقيم في الشاليه المجاور مع أبيها دكتور القلب المعروف نظمي فتاح، وأمها الدكتورة سعاد مدرّسة مادة التاريخ في جامعة دمشق. كان الشّاطئ هادئاً، والمياه الزرقاء تمتدّ حتى الأفق، والأمواج خفيفة وتتحرّك بهدوء وتلامس رمال الشاطئ. وفي عرض البحر ظهرت زوارق شراعية تتحرك في ثلاثة اتجاهات مختلفة، يميناً ويساراً وبعيداً نحو عمق البحر. خاضت الصبيّتان في المياه الهادئة، وابتعدتا عن الشّاطئ أكثر من مئتي متر، ثم راحتا تسبحان.
وعلى شرفة «الشاليه»، استقبل والدا إلهام- سناء وفواز- جيرانهم والدَي صبا. وجلس الأربعة حول طاولة، ووجوههم إلى البحر، وراحوا يرتشفون القهوة ويتحدثون في مواضيع عامة. فجأة، اخترقت هذه اللوحة الجميلة سيارة اندفعت من الخلف بقوة، وانعطفت يساراً، ثمّ توقّفت أمام «الشاليه»؛ ممّا أثار زوبعة من الغبار بسبب قوة المكابح. وحين انجلى الغبار عن سيارة مرسيدس حديثة الطراز، لا يقتنيها إلا الوزراء والضباط ذوو الرتب العالية، خرج منها رشيد وهو يرتدي «تي شيرت» بيضاء وسروالاً قصيراً أزرق، ويضع نظارة شمسية ذات ماركة عالمية.
اُستقبل رشيد بحفاوة مبالغ فيها من قبل فواز وسناء. وكان فوّاز كلما استقبل هذا الشاب المتغطرس يشعر بالدّونيّة، بينما كانت سناء تحاول أن تبدو ندّاً له. أُعطِي رشيد المكانة الفضلى ضمن الحلقة، وتمّ تقديمه إلى عائلة نظمي وسعاد اللذين احتفيا به أيضاً، وواظبت الدكتورة سعاد على مدح أبي رشيد الذي سمعت باسمه من خلال نشرات الأخبار.
وحين خرجت إلهام وصبا من البحر وتقدّمتا باتجاه «الشاليه»، وجسداهما يقطران ماء مالحاً، رحّب رشيد بهما، وما برحت عيناه تجولان على جسد صبا الأجمل والمثير أكثر بالنسبة إليه. عندها، أدركت سعاد أنّ رشيد أُعجب بابنتها، فأرسلت رسالة إلى ابنتها؛ وهي المرأة الخبيرة، والأم التي تريد كل الخير لابنتها. ووصلت رسالة سعاد إلى ابنتها صبا التي بدأت فوراً بممارسة لعبة الإغواء. فازدادت أنوثة ودلعاً وإغراء بعد أن علمت بهوّيّته عندما قدّمته لها أمها؛ كما لو أنّها أمرتها بأن تتصرّف بما قامت به. وقد حدث هذا الأمر بينما كانت إلهام تستحمّ داخل «الشاليه»، وسناء تعد القهوة في المطبخ، ولم يبقَ إلا فواز الذي لا يفهم لغة النساء الخفية.
وحين انضمت إلهام وأمها إلى الحلقة، كان النقاش يدور حول الأحداث والصراع الجاري في سوريا. تولّى الكلام رشيد الذي راح يهدِّد كلّ من تسوّل له نفسه الاعتداء على الوطن وقائده. وقال رشيد إنّه موافق على قتل مليون سوري إذا لزم الأمر كي يبقى النظام الاشتراكي المعادي للصهيونية العالمية والإمبريالية. فوافق فواز ونظمي على كلام رشيد، بل زادا على كلامه بالقول إنّه من الضروري المبالغة في تشديد العقوبات على المارقين الذين يحاولون زعزعة الاستقرار.
وفي نهاية الجلسة، دعا رشيد العائلتين لتناول الفطور في مطعم المنتجع الذي يبعد مسافة خمس دقائق مشياً.
أقيم المطعم على لسان صخري اخترق البحر لمسافة مئة متر. وهو عبارة عن صالة مسقوفة تحيط بها شرفات من ثلاث جهات، وتطل الشرفات على المياه، بحيث يكفي المرء أن يمدّ يده لتلامس المياه.
جلست العائلتان ورشيد على الشرفة الغربية. واحتفى مدير المطعم برشيد ومرافقيه، وقُدِّمت لهم أفضل الأطعمة. تعمّد رشيد أن يجلس بجانب إلهام، ولكن والأهم مقابل صبا التي أصبحت هدفاً دائماً لعينيه. كما مارست صبا لعبة الإغواء بنجاح باهر، ولكن في الوقت نفسه بحذر شديد؛ كي لا تكتشف إلهام نوايا الطرفين، أي رشيد وهي. فمهّدت الطريق برسائل من عينيها وصوتها ولغة جسدها المليء بالشهوة. وما إن انتهت جلسة الفطور حتّى كانا قد تفاهما، وقرّرا أن يقيما علاقة. ولكنّهما كانا بانتظار الفرصة المناسبة ليختليا ببعضهما.
وفي الليل، وعلى رمال الشاطئ، أقيمت حفلة ضخمة للشباب وسط تجمع كبير من «الشاليهات» يبعد ثلاثة كيلومترات عن مكان إقامة إلهام وصبا والأهل. وقد أحيت الحفلة مجموعة من المطربين على مسرح بُني في الهواء الطلق بالقرب من الشاطئ. قاد رشيد سيارته وبجانبه إلهام، وعلى المقعد الخلفي جلست صبا. وعندما وصلوا، كانت الحفلة قد بدأت، وتجمّع مئات الشباب والصبايا. كانت إلهام فرحة بهذا الحفل، فهي تحب الرقص والتجمعات. أمّا صبا فكانت تخطّط للحصول على رشيد بأي ثمن كان. إذ كانت توجيهات الأمّ الدكتورة سعاد واضحة ومحددة في فترة القيلولة، حيث قدّمت الأمّ توجيهاتها لابنتها عندما وجّه رشيد الدعوة لها ولإلهام.
في البداية، جلست صبا إلى الطاولة تشاهد، بينما انخرطت إلهام ورشيد في الرقص، وعيناه لا تفارقان صبا. وحين عادت إلهام إلى الطاولة متعبة، دعا رشيد صبا إلى الرقص. وبينما كانت إلهام تتابع الراقصين وتشرب البيرة، اختفى رشيد وصبا، فراحت تبحث عنهما بعينيها وهي جالسة، ولكنّها لم ترَهما. عندها، نهضت واخترقت جموع الراقصين، وفتّشت عنهما، ولكنّها لم تعثر عليهما، فعادت إلى مكانها وشعور بعدم الارتياح يرافقها. وبعد نصف ساعة، ظهر رشيد وصبا، واقتربا من إلهام وجلسا. وراح رشيد يخبرها أنّهما اضطرا للذهاب إلى «الشاليه» لتبدّل صبا حذاءها الذي أتعبها، وأنّها استبدلته بحذاء رياضي. وعندما نظرت إلهام إلى قدمَي صبا، رأت بالفعل الحذاء الرياضي، فهدأ قلقها، واختفت شكوكها إلى حين.
المدن