"أيها الداخلون اطرحوا عنكم أيّ أمل". بهذه العبارة يستقبلنا "مركز مينا للصورة" في منطقة المرفأ في بيروت، وقد اختارها عتبة لمعرض "عن الكوميديا البشرية"، في تماهٍ مبرّر مع افتتاحية دانتي لملحمته الشعرية "الكوميديا الإلهية". على بُعد أمتار من مكان انفجار 4 آب وفي خضمّ حرب إبادة شرسة في فلسطين المحتلة واعتداءات يومية على لبنان، لن تعثر على يد تساعدك في خلع معطف الأمل ولا خطافات لتعليقه على أي جدار، وذلك ليس لأنّ الجدران شاغرة، بل لأنّ الأمل نفسه تخلّى عن معناه.تراجيديا إنسانية
المعرض المستمرّ حتى 29 أيار/مايو الجاري، يعرض 59 لوحة منسوخة ليتوغرافياً من أصل 101 لوحة مائية للرسام الإسباني سلفادور دالي، استلهمها من "الكوميديا الإلهية" في خمسينيات القرن العشرين بمناسبة المئوية السابعة على ولادة الشاعر الإيطالي دانتي. لعلّها فرصة قيّمة ونادرة للجمهور في لبنان أن يطّلع على هذه اللوحات، التي يملكها جامع الأعمال الفنية غسان المالح، لكنّ طموح مديرة مركز مينا للصورة، منال خضر، ذهب أبعد، عبر دعوة خمسة من الفنانين التشكيليين ليستلهموا بدورهم كوميديا دانتي ولوحات دالي حولها، وليقدّموا شهاداتهم الشخصية على "لحظاتٍ في هزيمة الإنسانية المعاصرة، مستكشفين انعكاس كوميديا دانتي على عالمنا المعاصر وما نعيشه الأشبه بالتراجيديا"، مروراً بأزمنة مختلفة بينها زمن دالي ومدرسته السوريالية.
(ربيع مروة)لا شكّ في أنه تحدٍّ مُغرٍ، أن يحاكي فنانٌ دانتي ودالي معاً، الشعر والرسم، الملحمة والتشكيل. ثمة أيضاً المقاربة الوجودية لمسألة "ما بعد الحياة" والعبور المنهك من الجحيم إلى الفردوس مروراً بالمطهر. هذا الإنهاك الذي نستشرفه في نصّ دانتي، يصير إعجازياً اليوم، ونحن نعيش لحظة مأسوية مفجعة من تاريخ إنسانيتنا. لكنّ رسالة المعرض تلفت إلى الامتياز الذي يملكه الفنّان في مثل هذه اللحظات الفارقة، امتياز "التأمّل من مكان آمن... وأن تكون المساهمة الفنية تذكيراً بالمسؤولية الجماعية عن مواجهة الوقائع القاسية لعالمنا والدفاع عن الذين لم يحظوا بامتياز كهذا".عالقون في الجحيم
كان الفريق في خضمّ التحضير للمعرض حين اندلعت حرب الإبادة في فلسطين المحتلّة. كدأبهم، يمتلك الفنانون تلك الحساسية الفائقة التي تجعلهم يستشعرون المأساة قبل غيرهم، وحتى قبل وقوعها. بحواسهم الشفيفة يتنسمون أغبرة الركام قبل التصدّع والانهيار. الكيمياء تسبق الفيزياء، والألم يسبق الحروق والبتر وإعدام الخدّج. كانوا يركّزون على جحيم دانتي دون مطهره وفردوسه، وأتت إبادة غزّة لتفسّر انحيازهم. ورغم أنّ الفنانين الخمسة تطرّقوا إلى مرحلتي "المطهر" و"الفردوس" في هذا المعرض الجماعي، إلا أنّ ذلك أتى من خلف حواجز ونوافذ وأسلاك شائكة. لقد أجمعوا بلغة اللون والضوء على أنّهم عالقون في "الجحيم".
(ربيع مروة)ما عاد ممكناً أن تلوم الفنانين الخمسة الذين انجذبوا للجحيم أكثر من المطهر والفردوس، لقد أتت الإبادة على مقربة من أرواحهم لتثبت أن تشاؤمهم في مكانه، وها هو الجحيم يتحوّل من دانتي إلى دالي إليهم وإلى العالم كله. ما عاد هناك مجال للتردّد حول اللمسة الأخيرة وملء مساحة حائرة وسدّ ثغرة ومحو فائض.جحافل وحوش وملاك وحيد
بعد عدد من لوحات دالي المائية حول جحيم "الكوميديا الإلهية" يطلق أيمن بعلبكي صرخته الغاضبة عبر جدارية تجريدية تضرّجت بدماء حالكة، تكاد تشعر من مكانك خارج اللوحة بلزوجتها على جلدك وفي ماء عينيك. تناثر أسود الجحيم وبياضه أشلاء وغطّى السماء العاجزة، فانحسرت مساحتها الزرقاء البريئة بخفر، كأنها تخشى أن تلقى مصير المطهر نفسه الذي ابتلعته أمواج من كائنات متوحشة وخرافية. "في غزة" هو العنوان الذي اختاره بعلبكي لعمله، موضحاً أنّ من يرى صورة غزّة يخطر في باله فوراً الجحيم. الانفعال العاطفي طافح في عمل بعلبكي، وهو أمر يجاهر به. غضب ووحشية وعنف. أشلاء وركام. استغاثات ووصايا أخيرة.
أمّا ربيع مروّة فقد وزّع مشاركته على المحاور الثلاثة للـ "كوميديا الهية". ورغم أنه لم يغفل أياً منها، إلا أنّ المساحة التي أفردها لكلّ مرحلة تشرح انحيازه. جسّد الفردوس في لوحة كولاج يتيمة، يسودها البياض والطمأنينة، يخيّم عليهما ملصق لملاك ويختمهما ملصق لحورية مضطجعة، لكن تخرقهما قصاصة صغيرة من خبر صحافي عن إصابات وحرب. وإذ جسّد مروّة المطهر في 21 لوحة تكرّرت فيها لطخات من حبر أسود تناسخت من لوحة إلى أخرى متأثّرةً بظلالها وكثافتها مع مراحل تطّهرها، إلا أنه خصّص للجحيم فيلماً من 20 دقيقة، يعرض صوراً فوتوغرافية من ميادين الحروب على شاشة طولية، وأتت تلك الصور- كما موضوعها- أحيانا رأساً على عقب وأحياناً أخرى ممزقة أو مبتورة.معراج وحضيض
من جهتها، ركّزت شذا شرف الدين على الأصداء الإسلامية في عمل دانتي، وتحديداً التناص بين "الكوميديا الإلهية" وبين ميراث الإسراء والمعراج، كنصٍّ معتمد على الأحاديث النبويّة ورسوم منتقاة من المنمنمات الإسلامية في العصور الوسطى. انحياز شرف الدين واضح لمرحلة الجحيم التي برأيها تستنطق الواقع الراهن أكثر من سواها.
كذلك اختار عبد الرحمن قطناني الجحيم موضوعاً لمشاركته، مقدّماً منحوتة دائرية من أسلاك رفيعة شائكة تلتفّ حول مركزها الذي يشبه زوبعة، وكأنّها ثقب سود يبتلع من فيه ويرميهم في النسيان. يقول قطناني إنّ منحوتته تذكّره بالنسيج الاجتماعي في مخيمات اللاجئين المزدحمة التي نشأ في أحدها.خُصّص الجزء الأخير من المعرض للمرحلة الأخيرة من رحلة دانتي: الفردوس. في تلك القاعة المنزوية تجمع ريشة دالي دانتي بملهمته بياتريس في عناق يشبه سكينةً أبدية، وهناك فقط سيعثر الزائر على مقعد يدعوه لالتقاط أنفاسه وتأمّل عمل ريان تابت التركيبي، وهو عبارة عن 6 نوافذ متدلّية من السقف الواطئ، زجاجها مطلي بالأزرق. استوحى تابت حيلة اتبعها أهالي بعض المدن العربية في زمن غارات العدوان الجوية، مستخدمين مكعّبات "النيل" المخصّصة لغسيل الملابس في طلاء زجاج نوافذهم لعزل الضوء ومنع الكشّافات المعادية من رصد المساكن. ذاك الأزرق معادل للأمان، والحيلةُ معادِلة لسكينة الجنّة وثواب الحبّ. أليس هذا ما يفعله الفنّ في النهاية؟ نتحايل به على كائنات مآسينا بين غارة همجيّة وأخرى؟ إنه كذلك. وهذا ما أرادت "الكوميديا البشرية" أن تقوله لنا.