"حرب المئة عام على فلسطين"..للمؤرخ رشيد الخالدي
2023-11-05 06:40:29
في خضم تطورات العدوان الإجرامي الحاصل على غزة، ومفاعيله الراهنة والمُعاشة لناحية التذكير بأصول المسألة الفلسطينية وجذورها بعدما كادت تصير نسياً منسياً وسط تحوّلات إقليمية وعالمية عاصفة وغريبة؛ يُشكّل كتاب "حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017"(*) لمؤلفه المؤرّخ الفلسطيني-الأميركي رشيد الخالدي، فرصة للمساءلة والمراجعة للواقع المعقّد الذي آلت إليه القضية الفلسطينية في مختلف أبعاده وجوانبه بعد قرن من الحرب على الفلسطينيين انتهت "باعتراف" الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، مثلما يشكل فرصة لبيان توفُّر الشروط الموضوعية لإنتاج العنف والغضب الحاضرين في هجوم "طوفان الأقصى" الأخير.
فالهجوم المفاجئ الذي وقع يوم السابع من أكتوبر الماضي، على الرغم من خصائصه المذهلة المشابهة لما حدث في الجزائر في الستينيات أو فيتنام السبعينيات، لم يفاجئ المؤرخين والمحللين الذين كانوا يتوقعون منذ أشهر ردّ فعل فلسطينياً غاضباً ضد إسرائيل وسياساتها العدوانية المتزايدة. نُشر كتاب الخالدي قبل عامين، وفي وقتٍ سابق من هذا العام، في حديث لي معه، استنكر الخالدي كيف "تتمادى إسرائيل في سياساتها العدوانية وفي الوقت ذاته تطمئن لإفلاتها المتكرّر من العقاب"، محذّراً من أن "مخاطر كبيرة تلوح في الأفق إذا لم توقف أوروبا والولايات المتحدة التوسّع الإسرائيلي غير القانوني في الضفة الغربية".
يعتمد الخالدي في كتابه على مجموعة من المواد الأرشيفية غير المستغلّة، إضافة إلى تقارير أجيال من أفراد عائلته، ورؤساء بلديات وقضاة وعلماء ودبلوماسيين وصحافيين، وعدد كبير من المخطوطات من مكتبة جدّه الأكبر الحاج راغب الخالدي. ويركّز بحثه على ستِّ نقاطِ تَحَوّلٍ في الصراع على فلسطين، تبدأ بوعد بلفور سنة 1917 الذي حدَّد مصير فلسطين، إلى حصار اسرائيل لغزة وحروبها المتكررة على أهل القطاع في العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مروراً بقرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967، ثم الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ثم اتفاقية أوسلو للسلام 1993، ثم زيارة أرييل شارون إلى القدس عام 2000. تسلّط هذه المراحل الضوءَ على الطبيعة الاستعمارية لحرب المئة عام على فلسطين، وعلى الدور الأساسي للقوى الخارجية الأساسي في شنِّ هذه الحرب.فمنذ نشأة المسألة الفلسطينية بداية القرن الماضي، مع الدعم الغربي للحركة الصهيونية، أولاً من قبل بريطانيا العظمى ومن ثمّ من قِبل الولايات المتحدة، من بين قوى أخرى؛ طرد الإسرائيليون أكثر من نصف الفلسطينيين من أرضهم التاريخية في أعمال تطهير عرقي أرّخت لنكبة 1948، والتي تستمر بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا. وبحسب الخالدي: "إلى أن يتغيّر هذا الوضع، ستظلّ هناك حرب في فلسطين". ويذكر الخالدي أن إسرائيل واحدة من أكثر الدول ازدهاراً في العالم وأن الإسرائيليين يعيشون بشكل مريح ومحصّنين ضد ما يحدث في الأراضي التي يحتّلونها ويقمعونها: "هذا القمع، في سياق لا يوجد فيه أفق سياسي، لا يفضي إلا إلى المزيد من التوتر والمزيد من الغضب والمزيد من العنف".ويذكر الكتاب أنه في العام 1899، كتب رئيس بلدية القدس أن إنشاء دولة عبرية في أراضي فلسطين يعني طرد أهلها الذين سكنوها لعدة قرون. وهذا ما حدث بالفعل في 1948. "إسرائيل ليست دولة طبيعية، إنها أطول احتلال عسكري في التاريخ الحديث.. تأسّست بعد طرد وتهجير 750 ألف شخص، وفي عام 1967 طردت 100 ألف آخرين".يكشف الكتاب الخلفية التاريخية التي أدّت إلى انفجارات العنف المختلفة في فلسطين وضد الفلسطينيين، موضّحاً الديناميكيات الأساسية التي مورست منذ عقود عديدة. ولا يملّ الخالدي من التأكيد على أن هذا ليس "صراعاً" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، نظراً لتفاوت القوة بين الطرفين، بل حرباً ذات طبيعة ممنهجة ضد فلسطين والشعب الفلسطيني (استمرت لأكثر من قرن) بهدف تحويل هذا البلد إلى وطن قومي لليهود حصراً. يُدرج الأحداث في فلسطين ضمن سياقها العالمي والتاريخي، لتوضيح أنها جزء من نضال طويل وغير متكافئ للشعب الفلسطيني لمقاومة عمليات المصادرة والإحلال التي تستهدفه، ويعيد التذكير بالحقائق التي تخفيها عادةً التغطية الإعلامية الغربية السائدة.في حديثٍ سابق مع "المدن"، يشير الخالدي إلى أن المقاومة الفلسطينية لا تحظى بالاهتمام أو القبول ذاته الذي تحظى به المقاومة الأوكرانية: "نرى في وسائل الإعلام الغربية تقارير حماسية عن قيام نساء أوكرانيات بإعداد قنابل المولوتوف لاستخدامها ضد المحتلّين الروس. لسبب ما، لا يوجد النوع نفسه من الاهتمام المحبّب تجاه الفلسطينيين الذين يرشقون الحجارة ثم يُقتلون على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية. يُنظر إلى المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب، بينما يُنظر إلى المقاومة الأوكرانية على أنها بطولة. تتعرّض أوكرانيا للهجوم، وتُحتّل أجزاء من أراضيها لأشهر، فينتفض "العالم الحرّ"، فيما تظلّ الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس تحت الاحتلال منذ عقود. هناك وزنان ومقياسان. لقد أصبح الاستعمار والفظائع التي ترتكبها إسرائيل أمراً نسبياً ومقبولاً".في وقتٍ تقدّم فيه إسرائيل نفسها كدولة طبيعية، وجنّة للتكنولوجيا الفائقة، ووجهة سياحية يمكن الذهاب إليه لقضاء إجازة وادعة؛ تستمرّ أيضاً في إخفاء جرائمها وتضليل الرأي العام العالمي بما لا يسمح بالنظر إليها على حقيقتها كمحتلّ وحشي لا مثيل له في زمننا... يأتي كتاب الخالدي كنافذة مثالية لوضع المسألة الفلسطينية في سياقٍ معاصر، على أمل أن يتلقّاه القرّاء في أنحاء العالم (صدرت منه طبعات بإحدى عشرة لغة إلى الآن) بالانفتاح والتفهّم اللازمين لأي مقاربة مسؤولة وعاقلة وأمينة لفلسطين والفلسطينيين.منذ ما يسمّيه "إعلان الحرب الأول" (من 1917 إلى 1938) إلى يومنا هذا، يسطر الخالدي كتابة تاريخية وأكاديمية لا تستبعد البُعد الشخصي (يعتمد الكتاب على بحثٍ أكاديمي، غير أن فيه أيضاً بُعدين شخصي وعائلي يُستبعدان عادة في التأريخ الأكاديمي)، ليقدّم في الأخير رؤية فريدة وكاشفة لهذا الاضطراب المستمر، وسرداً تاريخياً لاستعمار ومقاومة شعبٍ يرفض التخلّي عن وجوده.
(*) صدرت النسخة العربية من الكتاب عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، بيروت. 2021. 359 صفحة. ترجمة: عامر شيخوني.
رشيد الخالدي: أستاذ كرسي إدوارد سعيد للدراسات العربية في جامعة كولومبيا بنيويورك. حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة ييل عام 1970، ودكتوراه في الفلسفة من جامعة اكسفورد عام 1974. وهو رئيس تحرير "Journal of Palestine Studies" وكان رئيس جمعية دراسات الشرق الأوسط (Middle East Studies Association of North America)، ومستشاراً للوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن للسلام العربي ـ الإسرائيلي من تشرين الأول / أكتوبر 1991 حتى حزيران / يونيو 1993. ألفّ العديد من الكتب، من بينها: زرع بذور الأزمة: الهيمنة الأميركية والحرب الباردة في الشرق الأوسط (2009)؛ القفص الحديدي: قصة النضال الفلسطيني من أجل الدولة (2006)؛ انبعاث الإمبراطورية: بصمات غربية ومسار أميركا الخطر في الشرق الأوسط (2004)؛ الهوية الفلسطينية: بناء وعي قومي حديث (1997)؛ تحت الحصار: صناعة القرار داخل منظمة التحرير الفلسطينية إبان حرب 1982 (1986)؛ السياسة البريطانية تجاه سوريا وفلسطين، 1906ـ 1914 (1980)؛ فلسطين والخليج (محرّر مشارك) (1982)؛ أصول القومية العربية (1991).
وكالات