2024- 05 - 02   |   بحث في الموقع  
logo كلاس: نقدر جهود ميقاتي والموقفين الأوروبي والقبرصي من قضية النزوح logo بالفيديو: اللاجئون السوريون ورحلة موت من لبنان نحو قبرص logo "بي.بي.سي": الشرطة الإيرانية تحرشت جنسياً بالمراهقة شاكارامي..قبل قتلها logo شرطي بريطاني يواجه اتهامات بالإرهاب: دعم "حماس" في "واتسآب" logo هل تخلّدنا المدينة بأرضها أم نخلّدها برواياتنا؟ logo جديد أحمد قعبور... "ما عندي مينا" logo بشأن تسديد الضرائب... بيانٌ "هام" من وزارة المالية! logo بعد بروز قضية عصابة الـ"تيكتوكرز"... جرمانوس "يدعو" لِاعتماد عقوبة الخصي الكيمائي
تحولات إسرائيل الاقتصادية والمجتمعية: ثقافة الاستهلاك لا القتال
2023-10-10 13:42:40

الجنود الإسرائيليّون الذين اختبؤوا في مواقعهم العسكريّة، ثم قضوا أو أسِروا من دون قتال، حين داهمهم مقاتلو حركة حماس يوم السبت الماضي، هم أنفسهم أحفاد أولئك الذين خاضوا قبل نصف قرن –بالتمام والكمال- حرب أكتوبر عام 1973، على جبهتي مصر وسوريا. بين مشاهد حرب أكتوبر، أو يوم الغفران كما يناديه الإسرائيليّون، ومشاهد "طوفان الأقصى"، يرى المرء تفاوتات لا تخطئها العين المجرّدة، في روحيّة الجندي الإسرائيلي القتاليّة، وفي أداء الجيش الإسرائيلي عند المواجهة المباشرة من المسافة صفر. على هذا النحو، تصبح مشاهد طوفان الأقصى مجرّد تعبير مكثّف عن تحوّلات مجتمعيّة واقتصاديّة ضخمة شهدها المجتمع الإسرائيلي، على امتداد العقود الماضية.
على أنّ أثر تلك التحوّلات، وتعبيراتها المكثّفة، لم تطرأ على الروحيّة القتاليّة للجندي الإسرائيلي فحسب، بل كانت تعبيراتها ماثلة للعيان في المجتمع الإسرائيلي والمشهد السياسي العام، على مرّ الأعوام القليلة الماضية. إسرائيل، التي كانت تعيش تحت ما يشبه نظام الحزب الواحد قبل نصف قرن، هي نفسها إسرائيل التي اضطرّت لإجراء خمسة استحقاقات انتخابيّة في السنوات الأربع الماضية. وهي نفسها إسرائيل التي تمرّ بمحنة الانقسام السياسي والمجتمعي حول تعديلات الإصلاح القضائي، والملاحقات الجنائيّة الجارية بحق رئيس حكومتها. التحديات السياسيّة، التي تعمّقت لتطرح أسئلة حول مستقبل الدولة وتماسك مجتمعها، باتت هي الأخرى دلالة على طبيعة التحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة نفسها التي شهدتها إسرائيل خلال العقود الماضية.المجتمع الزراعي التعاوني المعبّأ للقتالمنذ الأساس، ولدت الصهيونيّة، وولدت إسرائيل من رحمها، كفكرة قوميّة قبل أن تكون دعوةً دينيّة بحتة، بل قبل أن تكون حتّى تجليًا أو ترجمةً لأي إرث حاخامي أو تعاليم توراتيّة. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الرغبة بالتحرّر من مظاهر معاداة الساميّة في الشتات اليهودي، تلاقي طفرة القوميّة كفكرة في الغرب، والوعي القومي كدعوة سياسيّة، ما أنتج الصهيونيّة على أيدي قادة تغلب فيهم النظرة العلمانيّة للفكرة الصهيونيّة. الانزياح عن هذه الرؤية للصهيونيّة، سيكون أحد بذور التحوّلات التي ستطرأ على المجتمع الإسرائيلي لاحقًا، بل سيكون أحد الأسافين وعوامل الاستقطاب المجتمعي الذي ستراه إسرائيل، بل وستدفع ثمنه سياسيًا أيضًا.
ومنذ الأساس أيضًا، اتسمت الحركة الاستيطانيّة، التي ترجمت المشروع الصهيوني في بدايته، بطابع تعاوني زراعي وعمّالي. كان الهدف الأساس أولّا تهويد القوّة العاملة في فلسطين، بأدوات عديدة، كان أبرزها تأطير الحركة النقابيّة وخلق التعاونيّات الزراعيّة، التي عُرفت لاحقًا بالكيبوتس. على هذا النحو، كان الاستيطان يخلق تدريجيًا مجتمعًا جديدًا من الوافدين اليهود، واقتصادًا جديدًا يقوم على الزراعة أو بعض الصناعات الحرفيّة البسيطة، أو صناعة النسيج. وكانت التعاونيّات، التي نبتت كالفطر في كل أنحاء البلاد، عامل لحمة مجتمعيّة بين الوافدين الجدد.في هذه البيئة بالتحديد، ولد الهيستدروت، أو الاتحاد العام لعمّال إسرائيل. لم يكن هذا الإتحاد مجرّد إطار نقابي بحت، كحال غيره من الاتحادات العماليّة في دول أخرى. كان الهيستدروت أحد المنظمات التي ولدت على أكتافها دولة إسرائيل لاحقًا، بعدما تحوّل إلى إطار يقيم التعاونيّات الزراعيّة والتجاريّة ويؤمّن فرص العمل، ويقدّم خدمات التعليم والصحّة والسكن وتعويض نهاية الخدمة. وقبل الإعلان عن دولة إسرائيل نفسها، كان الهيستدروت شبه دولة، تمتلك تنظيماتها المسلّحة ومصرفها وقضاءها.
على هذا النحو، كانت إسرائيل، بمجتمعها الزراعي والعمّالي التقليدي، تتأسّس كدولة شبه إشتراكيّة، وكان من الطبيعي أن يغلب على حياتها السياسيّة الطابع اليساري، عبر حزب ماباي الاشتراكي، الذي هيمن على الحكم منذ تأسيس الدولة، إلى حين اندماجه بحزب العمل، الذي هيمن عندها على الحياة السياسيّة الإسرائيليّة لغاية عام 1977. كانت سيطرة حزب العمل على الهيستدروت، والحكومة الإسرائيليّة، في الوقت نفسه، هي الضمانة لتوزيع الأدوار بين الدولة الإسرائيليّة والهيستدروت، الذي ظلّ يحتفظ بنفوذه وسطوته على المجتمع الإسرائيلي بعد ولادة الدولة.
هكذا، كانت إسرائيل تخوض حروبها في تلك المرحلة بمجتمع عالي التعبئة، بل وببيئة مثاليّة لتجييش شعبها من أجل القتال. فالقوّة العاملة الزراعيّة الشرسة، التي ذاقت شظف العيش للسيطرة على الأرض، والفكرة السياسيّة الحاضرة والواضحة جدًا، والمجتمع المتلاحم في التعاونيّات الزراعيّة والعماليّة، واستقرار الحكم تحت هيمنة الحزب المسيطر، والإيديولوجيا التي تقود الدولة الوليدة، كلها عوامل أنتجت إسرائيل التي خبرها العرب في حروبهم معها بين عامي 1948 و1973.
هذه الـ"إسرائيل" تغيّرت لاحقًا.ولادة المجتمع الاستهلاكي وتضاؤل دور اليساربدأت إسرائيل تتلمّس بداية التحوّلات التي طرأت على مجتمعها وحياتها السياسيّة عام 1977، قبل أن تتسارع هذه التحوّلات بشكل أقسى في الثمانينات، وبصورة جذريّة في التسعينات.
في حقبة السبعينات، كانت نجاة إسرائيل، كفكرة ودور، من حربي 1967 و1973 عاملًا مطمئنًا لرؤوس الأموال التي بدأت بالتدفّق إلى القطاعات الصناعيّة لاحقًا. هناك، بدأت قطاعات جديدة، ومتطوّرة نسبيًا، بالظهور خارج إطار الحركة التعاونيّة التقليديّة التي ولد في ظلّها الاقتصاد الإسرائيلي. وفي تلك المرحلة بالتحديد، تسارعت وتير الهجرة باتجاه المدن، ليتسع معها المجتمع المُدني البعيد عن حياة الريف والاستيطان التقليدي الزراعي. ودفع بالاتجاه نفسه تقليم أظافر الهيستدروت، وخصخصة جزء كبير من المؤسسات الإنتاجيّة التي كان يملكها.
ثم جاءت الأزمات الاقتصاديّة التي شهدها إسرائيل، والتي انتهت في منتصف الثمانينات بخطط حكوميّة تقشفيّة قلّصت الإنفاق العام، وخصخصت جزءاً كبيراً من المؤسسات الحكوميّة والمرافق العامّة، مستفيدة من تضاؤل نفوذ وسطوة الهيستدروت الذي عارض تقليديًا هذا النوع من الخطط. وفي تلك التطوّرات، كانت إسرائيل تذهب أكثر فأكثر باتجاه السوق الحر والليبرالي، بعيدًا عن فكرة الدولة المهيمنة، والمجتمع الزراعي الذي يعمل تحت كنفها. وفوق ذلك، جاءت السياسات العامّة الإسرائيليّة التي دفعت باتجاه توسعة قطاعات الاتصالات والتكنولوجيا، بدل الرهان على القطاع الزراعي كعامل محرّك في الاقتصاد المحلّي.
وبالتوازي مع كل تلك التطوّرات، كان التقدّم التكنولوجي في حقبة التسعينات يسهم في تقليص الحاجة إلى القوّة العاملة في قطاع الزراعة، ما ساهم بدوره في تقليص نطاق المجتمع الزراعي التقليدي، الذي تنامت على أساسه القوّة الديموغرافيّة اليهوديّة عند تأسيس إسرائيل. وفي المقابل، كانت تتنامى قوّة ديموغرافيّة موازية، قوامها العاملون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة في القطاعات الأخرى، وخصوصًا في المدن.
كل هذا المشهد، كان يدفع باتجاهين: نمو مجتمع إستهلاكي مشابه للمجتمعات الاستهلاكيّة التي نمت في الدول الغربيّة، في الفترة نفسها. وتضاؤل دور اليسار في الحياة السياسيّة الإسرائيليّة، في مقابل تنامي دور القوى السياسيّة اليمينيّة التي تملك خطاباً معاكساً، وأبرزها حزب الليكود.
وهكذا، فقدت إسرائيل القوّة المجتمعيّة المتلاحمة التي خاضت لأجلها في حروبها التاريخيّة، لمصلحة مجتمع أكثر فردانيّة وليبراليّة، وأقل قدرة على القتال الشرس. أمّا الأهم، فهو أنّ هذه التحوّلات الاجتماعيّة كانت تتوازى مع تحوّلات أخرى على المشهد السياسي، ما أسهم بدوره في إفقاد البلاد إجماع أبنائها على فكرة الدولة ودورها.التحوّلات السياسيّة مع صعود اليمين المتطرّفكما أشرنا سابقًا، ولدت الصهيونيّة كفكرة قوميّة، لا كترجمة لإرث أو تعاليم دينيّة يهوديّة. بل وأكثر من ذلك، كان حضور الحريديين أو الدينيين في تلك المرحلة، داخل الحركة الصهيونيّة، حضورًا خجولًا وباهتًا، وسط تشكيك الكثير من الأوساط الحاخاميّة بمستقل الكيان الجديد أو حتّى امتثاله للتعاليم والتنبؤات التوراتيّة.
إلا أنّ نجاح إسرائيل في البقاء كفكرة ودولة، وتجاوزها الحروب التاريخيّة المتكرّرة، شجّع تدريجيًا الحركات الحريديّة على الاندماج في الحياة السياسيّة، ولو من دون الاندماج في مؤسسات الدولة والجيش، كما تنامت بالتوازي حركات الصهيونيّة الدينيّة، التي تنتمي لفكرة الصهيونيّة من منظور ديني وتوراتي صرف. ومع تنامي هذه الكتلة الديموغرافيّة خلال العقود الثلاثة الماضية، في مقابل تراجع معدل الولادات لدى اليهود العلمانيين وعرب الـ48، كانت سطوة هذه الحركات تتنامى داخل الحياة السياسيّة الإسرائيليّة، وكذلك أثرها على مركز القرار، وصولًا إلى مساهمتها في تشكيل الحكومة الإسرائيليّة الأخيرة، الأكثر تطرّفًا في تاريخ الحكومات الإسرائيليّة.
كان تنامي دور هذه الحركات يضغط باتجاهين في الوقت نفسه: أولًا، كان مركز القرار في إسرائيل ينزاح باتجاه سياسات أكثر شعبويّة وأقل براغماتيّة، مقارنة بتلك التي انتهجها اليسار الإسرائيلي مثلًا في مرحلة التسعينات. وثانيًا، كان نمو هذه التيّارات يسهم في خلق استقطاب مجتمعي حاد، حول دور وهويّة إسرائيل نفسها، وشكل النظام السياسي فيها، وهو ما ترجمته مؤخرًا الخلافات حول تعديلات الإصلاح القضائي.في خلاصة الأمر، لم يعد أغلب الجنود الإسرائيليّون يذهبون إلى ساحات القتال من مجتمعات ريفيّة وتعاونيّة متقشّفة، ولم يمضِ هؤلاء عقودًا من حياتهم في بناء المستوطنات وبيئتها الزراعيّة، كما كان الحال قبل نصف قرن. ولم يذهب هؤلاء إلى الجبهة تحت لواء فكرة واضحة المعالم، وإيديولوجيا متماسكة وصلبة تحكم نظرتهم للدولة ومستقبلها. ولم تعد الدولة نفسها تمثّل لهؤلاء قيادة سياسيّة موثوقة ومتزنة، بما يدفع المرء للاستعداد بالتضحية من دون تردّد. من هذه الزاوية، يمكن للمرء أن يفهم ما طرأ من تغيّرات على الروحيّة القتاليّة للجندي الإسرائيلي، خلال فترة نصف قرن من الزمن.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top