2024- 05 - 17   |   بحث في الموقع  
logo بيع عقار بتزوير مستنداته… وأمن الدولة يتحرّك logo وزير العدل بحث مع السفير الإيطالي في سبل التعاون القضائي بين البلدين logo كمال الخير حيا الشعب الفلسطيني ومقاومته في ذكرى النكبة: لا خيار أمامنا الا التمسك بالمقاومة logo بوتين: السلطات الأميركية تقطع الغصن الذي تجلس عليه logo لماذا لم يلق الأسد كلمة في قمة المنامة؟ logo إردوغان: لولا “مبادرة البحر الأسود” لكانت هناك مجاعة في العديد من الأماكن logo زياد عبدالله...حضرت "ليالي ابن اوي" وكنت الوحيد الذي يضحك logo "قنصٌ وقذائف"... المقاومة الفلسطينية تصعّد بوجه اسرائيل! (فيديو)
هل تخلّدنا المدينة بأرضها أم نخلّدها برواياتنا؟
2024-05-02 13:25:43

لا أعرف المكان إلا بطلًا للسرديات كلها، التي يعيشها البشر في يومياتهم، ويكنزونها في خزائن ذاكرتهم وأوراق تاريخهم، وينسجها المبدعون في متخيلاتهم الروائية والقصصية. بل وحين تعطب الحياة الحقيقية أحيانًا، وتتعطل الجماليات الفنية فوق مسطّح البذاءة والقبح، كما في كثير من خرائطنا العربية الحالية، فقد لا يتخلى المكان عن حضوره الطاغي بطلًا لوجودٍ آخر، وأساطير إبداعية موازية.
لا يختفي الجوهر المكاني أبدًا خلف غيوم عابرة وأوضاع مؤقتة وأحداث مرحلية، لكنه قد يتوارى قليلًا أو يحتجب نسبيًّا عن الأنظار الضيقة القاصرة، التي تقف عند حد الأسطح ونفايات الغبار الخارجية. وهنا يتعاظم دور الفكر والثقافة والإبداع، لإعادة المكان جليًّا إلى بؤرة الضوء، ليراه على طبيعته المختصّون والعاديون على السواء.
حدثان عربيًّان مهمّان، أعادا للمكان بريقه المستحقّ في هذه الآونة. الأول؛ هو "ملتقى القاهرة الأدبي" في دورته السادسة (20-25 إبريل/نيسان 2024)، تحت عنوان "المدينة والذاكرة". واختير عنوانه انطلاقًا من تعرض مدن المنطقة لويلات وتحديات كبرى جرّاء الحروب والهجرات والتحديث المعماري الفج وملابسات أخرى، وذلك وفق رئيس الملتقى محمد البعلي، مدير دار صفصافة للثقافة والنشر، الجهة المنظمة للحدث. وشهد الملتقى الدولي حضور أدباء عرب وأجانب بارزين، منهم المصريون: إبراهيم عبد المجيد، صنع الله إبراهيم، مي التلمساني، ضحى عاصي، هشام أصلان، بسمة عبد العزيز، إلى جانب إبراهيم نصر الله (فلسطين)، كرستين أوتن (هولندا)، سالار عبده (الولايات المتحدة) إنريكي شنايدر (البرازيل)، إياكي كابي (جورجيا).
أما الحدث الثاني؛ فهو "معرض أبوظبي الدولي للكتاب" في دورته الثالثة والثلاثين (29 أبريل/نيسان-5 مايو/أيار 2024)، تحت شعار "هنا.. تُسرد قصص العالم". وقد اختارت إدارة المعرض راوي المدينة الأبرز نجيب محفوظ (1911-2006) شخصية محورية للفعاليات، مع احتفاء خاص ببطولة المكان في أعماله الروائية.
هل تخلّدنا المدينة بأرضها، أم نحن الذين نخلّدها برواياتنا؟ كيف يتشرب المكان أرواحنا ودماءنا وروائحنا، وكيف نفجّر حكاياته من ذواتنا المزروعة في تفاصيله المرئية والمهجورة والمنسيّة؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها من جديد، من واقع إعادة إثارة إشكاليات المكان وجدلياته وجمالياته على موائد النقاش في الحدثين العربيين، اللذين أحسنا تحريك المياه الراكدة بشأن المكان، بعدما كادت تُحنّطه اللحظة الراهنة المتحجرة بقسوتها، القاسية بتحجّرها.
نعم، تَصنع الأمكنةُ البشرَ، وتخلّدهم في ربوعها، لكنهم أيضًا يصنعونها، ويخلّدونها في فضاءاتهم. المدينة خَلقتْ فن الرواية العظيم، وكم من رواية أيضًا خلقت مدينة عُظمى. هناك عاصمة بريطانية يعرفها الجميع، لكنْ هناك لندن أخرى واحدة نحتها تشارلز ديكنز في "ديفيد كوبرفيلد" و"آمال عريضة" و"قصة مدينتين".
وهناك عاصمة فرنسية شهيرة، لكنْ هناك باريس خاصة جدًّا صوّرها فيكتور هوجو وبلزاك. وهناك روسيا مختلفة صاغها تولستوي وأنطون تشيخوف. وهناك القاهرة العتيقة العامرة بأحيائها وشوارعها وحاراتها وأزقّتها الشعبية، التي قدّمها نجيب محفوظ للعالم كله، وعرفها القاصي والداني من خلاله، حتى أولئك الذين يعيشون تحت سمائها.
المدينة صندوق حكايات واقعية وتاريخية وسحرية، وخندق ضخم تمكث فيه الذاكرة مطمئنة هانئة. وخيالات البشر ووعيهم الحُرّ صناديق مفتوحة، أكثر اتساعًا من المدن كلها. تلتقطنا المدينة صغارًا، تحفظنا أرقامًا في سجلاتها، تروي تنقلاتنا ومحطات رحلاتنا في أوراقها، وتذكرنا آثارًا وشواهد قبور بعد رحيلنا.
البشر من جانبهم يتعلقون بالمكان صغارًا وكبارًا، يدينون له بخرائطهم المُرشدة، وبوصلاتهم الهادية، وذكرياتهم الهاربة. يطالعون في مراياه خبايا أنفسهم التي لا يعرفونها حق معرفتها. تختلط في المرايا حكاياتهم الدفينة وحكايات المكان السرية، فيتحقق الاكتشاف اللانهائي لذواتهم المهمّشة، ومساحاته الفريدة المدهشة التي لم تطأها قدم بعد، حتى وإن كانت سجنًا أو ما يشبه السجن.
عندما يحضر المكان، ولو بسقوفه وجدرانه، يزول الخوف، وتتضاءل الهواجس، وتُستأنسُ الأشباحُ والكوابيس. المكان قلعة للحقوق الحاضرة والغائبة، ومصنع للآمال والأحلام والتفاصيل الحية، ومخبز لا يتوقف عطاؤه من أرغفة الحكايات الساخنة. وهو بحد ذاته قصة طازجة متجددة، لا نهاية لها. وهذه القصة الدائرية لا تمنح نفسها مكتملة أبدًا لأحد، لأن غموضها الشهي هو إكسير بقائها ووصفة خلودها.
لم تُناقش بعد بالقدر الكافي في بحوث الجامعيين ودراسات الأكاديميين ملكاتُ المكان وتجلياته وطاقاته الواهبة للعطايا والهدايا، في الحياة وفي الأدب على السواء. في قاهرة المعزّ مثلًا، التي تعود إلى أكثر من ألف عام، المكان يأسر الزمان، وينوب عن البشر في الحديث بألسنتهم، والتعبير عن هويتهم، وتمثيل حضورهم وشخصيتهم وجيناتهم المتوارثة.
وهذه الأمكنة نفسها، لولاها لم تكن روايات العمّ محفوظ، مثل "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" و"زقاق المدق" و"خان الخليلي" وغيرها. وحتى إن كان هو الذي يعيد صنع هذه الأمكنة المحلية على طريقته، ويُكسبها بصمته، ويبدع قاهرته العالمية الخالدة الموقّعة باسْمه، فإن أصولها الحقيقية هي منبع الأفكار والرؤى والشخصيات والأحداث المتخيلة. وهذه الأمكنة الحقيقية هي التي شحنت وجدان محفوظ الإنسان أيضًا ومزاجه ووعيه في مراحل طويلة من حياته منذ صغره، وقبل أن يمسك بميزان حسّاس ويصبح "جواهرجيّ أمكنة".
المكان بمقدوره أيضًا، في الحياة وفي الأدب معًا، أن يصنع معجزته كرمز، وأسطورة، وحالة استثنائية تتخطى براويز الواقع. ألا يرى السكّان المقيمون بالقرب من أهرامات الجيزة أنهم فراعين جدد بأثواب عصرية؟! العم محفوظ نفسه، الذي لم يكن مقيمًا ذات يوم في تلك المنطقة، ولا زائرًا دائمًا لهضبة الهرم، سحبه هذا المكان الأسطوري بعيدًا من الواقعية ليكتشف خصوصية ممارسة "الحب فوق هضبة الهرم". لقد هرب العاشقان، بطلا روايته، من المجتمع والقوانين والتقاليد ليسرقا الحب الكامل في هذا المكان الخارق، فوهبهما المكان إرادتهما الكاملة.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top