2024- 05 - 15   |   بحث في الموقع  
logo “غارة صور”.. من هم المستهدفين؟ logo نصرالله "المنتصر": وصيّ على مستقبل لبنان وسوريا ولاجئيها logo جريمةٌ بحقّ الطفولة… أبٌ يرمي أولاده! logo توقيف شخص جديد من ضمن شبكة الاعتداء على قاصرين logo رداً على استهداف العدوّ لبلدة يارون.. ماذا قصف “حزب الله”؟ logo بالصوره: زينة مفقودة.. هل من يعرف عنها شيئاً؟ logo الامن العام: تنظيم عودة 225 سوريا عبر مركزي عرسال والقاع logo قتيل وجرحى.. صواريخ أُطلقت من لبنان باتجاه مستوطنة إسرائيلية
جنّة غورباتشوف
2022-09-01 13:26:15

مات ميخائيل غورباتشوف، الرجل الذي ارتبط اسمه بتفكك الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وتوحيد ألمانيا، من دون إراقة قطرة دماء واحدة. جاء موته نتيجة طبيعية لصراعه الطويل مع الفشل الكبدي. في سنواته الأخيرة عاش منعزلاً ومعتزلاً.
ها هو، على طاولة طويلة، يمشي بصعوبة بمساعدة جهاز المشي. الأجواء شتوية، والألوان كذلك. الطاولة مُعدّة جيداً على الطريقة الروسية، فهناك زجاجات عصير وأطباق لحوم باردة، كما يقدّم الطاهي وجبات خفيفة وفودكا. رأسه، على وجه الخصوص، أصبح أكثر سُمكاً، مع تلك العلامة المميزة. صار عجوزاً ضعيفاً، ذاك الرجل الذي غيّر حياة الملايين: ميخائيل غورباتشوف.قبل ثلاثة أعوام، زاره المخرج الروسي المنشقّ، فيتالي مانسكي، في منزله في ضواحي موسكو. أراد مقابلته وإنجاز فيلم وثائقي عن سيرته، لكن "جنة غورباتشوف"، المصوّر في شتاء 2019/2020، أبعد ما يكون عن كونه ملخّصاً سياسياً مكثفاً لحياة طويلة ومديدة وحافلة لرجل غيّر العالم حرفياً؛ إنما هو، قبل أي شيء، دراسة هادئة ومتأملة عن الشيخوخة والتدهور الجسدي. وهو أيضاً قصة حبّ.يبدأ الفيلم بمشهد تأسيسي: قطّة وسط غرفة فارغة، رجل عجوز يغفو أثناء مشاهدة فيديو يشيد بإنجازاته السابقة، حتى تدقّ الساعة فينتبه ويصحو من غفوته. بهكذا افتتاحية، يؤذن الفيلم بمقاربة مختلفة وجديدة تماماً لرجل شغل الناس وحدّد مصائر كثير منهم. الرجل الذي انتقده وكرهه العديد من مواطنيه، في حين أشاد به عدد لا يحصى من غير الروس، بسبب سياسته القائمة على الشفافية وإعادة الهيكلة (الغلاسنوست والبيريسترويكا، كما في الأدبيات الروسية)، والتي ساعدت في إنهاء الستار الحديدي الذي قسّم البلدان الرأسمالية والشيوعية خلال عقود من الحرب الباردة؛ هذا الرجل يُجرَّد هنا من ثقل شخصيته التاريخية، إما من خلال طبيعة الزمن التي تجعل كل شيء وكل شخص بالياً ومتداعياً، أو بفعل تصرفات قوى سياسية ترغب في ذلك.بسبب تدهور صحته، يتجوَّل ميخائيل سيرجيفيتش (كما يسمّيه معاونوه وأصدقائه) في المنزل، مع مشّاية وبمساعدة معاونه المخلص، وينزل المصعد المهندَس خصيصاً لأجله في الشقة التي خصّصتها له الدولة بعد تخلّيه عن السلطة. لكن، إلى جانب المشكلة الجسدية والصدمة العاطفية لفقدان زوجته المحبوبة ريسا، يبدو ضجراً ومرهقاً حين اضطراره لمناقشة سنوات حكمه، مستاءً من انصراف الناس عنه، مثقلاً بإدراكه عدم تقدير شعبه له. هذه ليست مشاعر ومواقف متناقضة عندما يتعلّق الأمر بالنفسية البشرية، لكنها تؤدي إلى تناقضات في الخطاب يشكّك فيها باستمرار المخرج الروسي، الذي يعيش في لاتفيا. بالمناسبة، الجانب الأعظم من إنتاج الفيلم قادم من لاتفيا، وهي واحدة من البلدان التي استفادت من التحول الجذري الذي أحدثه غورباتشوف بتفكيك الاتحاد السوفياتي. على أية حال، يظلّ غورباتشوف حالة نادرة في التاريخ المعاصر، قائد سياسي، في ذروة ضغط مهمته العملاقة، فكّر بغضب "أن يركل الدلو"، كما يقول في بداية الفيلم.
يركّز فيتالي مانسكي على صوره الخاصة لغورباتشوف، ولا يستخدم المواد الأرشيفية، مكتفياً فقط بصورة عَرَضية لأبرز معاصري غورباتشوف من القادة السوفيات مع نصّ توضيحي قصير يعرّفهم. يمنح هذا الاختيار الفني إحساساً حيوياً بكيفية رؤية غورباتشوف لحياته. تنبثق صورة آسرة ومغرية نسبياً لشخصيته، كرجل رقيق وفَكِه، لكنها في بعض الأحيان تلمّح كذلك إلى خصاله الأكثر ظلمة. يقتبس غورباتشوف من أشعار بوشكين ويسينين، ويغنّي أغنيات شعبية أوكرانية من أولها حتى آخرها.في محادثاتهما، يبحث مانسكي في ماضي غورباتشوف، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وذكريات زوجته المتوفاة، وكذلك نظرته الحالية للأمور. يتبع المخرج أسلوب مقابلة جريء ومتشبث، فيما يراوغ غورباتشوف محاوره محاولاً إدارة دفة الحديث مرة بعد أخرى. لماذا يتجنّب الحديث عن انهيار الاتحاد السوفياتي، ولماذا لا يجيب عن سؤال هل أمرَ الجيش السوفياتي بإطلاق النار في دول البلطيق؟ يصمت غورباتشوف، وللحظات طويلة يظلّ يخدش جرحاً في ذراعه.(قُبلة غورباتشوف ورئيس ألمانيا الشرقية هونيكر، 1986)مع ذلك، يقدم غورباتشوف بعض الملاحظات الكاشفة. فقد رأى الرئيس الأميركي رونالد ريغان "ديناصوراً". وهو مستاء للغاية بشأن خليفته بوريس يلتسين. عندما سُئل عن أي من القادة السوفيات يمكن اعتباره اشتراكياً، أجاب ضاحكاً: "بالطبع أنا". في بعض الأحيان يكون دبلوماسياً بشأن بوتين وفي أحيان أخرى ينتقده بشدة. خلال الاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة في الشقة مع مساعده فولوديا وزوجته تانيا، كان بوتين موجوداً في كل مكان في شاشات التلفزيون. ربما تكون مصادفة، لكن عندما ألقى بوتين خطابه في رأس السنة الجديدة، أضاع غورباتشوف مساعدته السمعية.يروي غورباتشوف بروح دعابته وصراحته الاضطهاد الذي عاناه جدّه، الذي كان عضواً في مزرعة جماعية، في عهد ستالين، حيث سُجن وعُذّب لشهور (لم يملك جدّ زوجته الحظّ نفسه، فقد أُعدم). ما من شك في أن ستالين وجنونه القمعي، الذي قضى على مئات الآلاف من "الأعداء البرجوازيين" المفترضين وأدّى إلى مقتل ما لا يقل عن 10 ملايين شخص؛ أثّر بشكل عميق في الزعيم السوفياتي الأخير. كذلك، لا أحد يشكّ في أن الحدث الأكثر تميّزاً في القرن العشرين كان الثورة البلشفية العام 1917. ذلك التسارع التاريخي غير المسبوق، المرتبط بشكل مباشر بالحرب العالمية الأولى، والمرتبط حتماً بالحرب العالمية الثانية، وبلغ ذروته أثناء الحرب الباردة. ورغم ذلك فالثورة دائماً عرضة للشتم والسبّ، كما الغبطة والأمل، والنحيب والكآبة.كل كلمة في "جنة غورباتشوف" تحمل خلفية هذه المادية التاريخية: تمثَّل المشروع في بناء ذلك الرجل السوفياتي الجديد، الذي سيغيّر وجه الأرض وينقذ البشرية من السقوط الهائل الذي أحدثته الرأسمالية المنحرفة. اليوم، يبدو من السهل إهمال ضخامة وطموح المشروع الذي سقط، كما تقول الكليشيهات، مثل بيت من ورق. لكن الجهد الفكري والعاطفي الهائل الذي قام عليه، والذي يعتبر غورباتشوف رافداً له، لا يمكن إنكاره: مساره، من عائلته الفلاحية إلى تعليمه الجامعي، صعوده في ماكينة الحزب الزبائنية والمهيمنة، وأخيراً إصلاحاته، التي زادت من حرية التعبير والصحافة وعززت اللامركزية في القرارات الاقتصادية؛ كل هذا أكثر من تأكيد على ثراء وتعقيد المشروع الشيوعي.ربما بسبب متاهة التناقضات هذه، ينبع، من الصور والخُطَب، انطباع معيّن عن غورباتشوف باعتباره هو نفسه لغزاً/أحجية، غير قادر على فهم دوره في التاريخ. لكن مَن، بهذا المستوى من الشخصية والحيثية، سيكون قادراً؟ يقول غورباتشوف إنه فخور بتحرير الجمهوريات السابقة من الاتحاد السوفياتي، لكنه في الوقت نفسه، يبدو وكأنه يشعر بالحنين إلى الحياة السوفياتية. فهو، مثل العديد من مثقفي زمن ما بعد ستالين، معجب بلينين بشكل غير مشروط، والذي أضحى يشكّل نوعاً من الرصيد الأخلاقي لأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالاشتراكية (ويتجاهلون الإجراءات القمعية اللينينية أيضاً). لا حدود واضحة ولا إجابات قاطعة، مثلما هو الحال مع اللغط الحاصل بشأن غورباتشوف: هل كان عميلاً للغرب، منتهزاً للفرص، مهووساً فقط بمسيرته السياسية؟ أم أنه نذير سلام حرّر الملايين، داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه، وحرّر البشرية من القبور النووية؟لا يجيب الفيلم بالطبع، وإنما يختار لنهايتة خاتمة حزينة وميلانكولية، يطبعها حنين غورباتشوف وإخلاصه لزوجته ريسا، التي وافتها المنية قبل عشرين عاماً. المرأة التي كانت تُعرف باسم السيدة الأولى والوحيدة في الاتحاد السوفياتي. نرى مشهداً جميلاً، يبدو فيه غورباتشوف ضئيلاً في مدخل مكتبه بجوار صورة ضخمة لريسا المبتسمة. يزور غورباتشوف قبرها في مقبرة نوفوديفيتشي الجميلة. يقول إنه حجز بالفعل مكاناً خاصاً به إلى جوارها. وبالفعل دُفن غورباتشوف هناك، إلى جوار زوجته والعديد من القادة السوفيات."جنة غورباتشوف" بورتريه تسجيلي حميم منجَز بعناية واحترام مليء بالتعاطف، لكنه يبحث أيضاً عن لحظات حاسمة في حياة غورباتشوف وعن أسسٍ فلسفية. بهذه الطريقة، لا يصبح الفيلم الرهيف إطلالة لافتة على حياة غيَّرت العالم فحسب، بل قدّاساً لرجل دولة مهم.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top