أقامت جامعة البلمند حفل تخرّج طلابها للعام الدراسي 2021-2022 في حرم الجامعة في الكورة برعاية بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس يوحنا العاشر يازجي وحضوره، رئيس الجامعة الدكتور الياس وراق، إضافة إلى شخصيّات سياسيّة، دينيّة، اجتماعيّة، تربويّة، أمنيّة، عسكريّة، وإعلاميّة وعدد كبير من أهالي الطلاب والأقارب. وبلغ عدد الخرّيجين 1369 خريجًا من مختلف الاختصاصات والكليات من فروع الجامعة كافة، من الحرم الرئيسي في الكورة إلى عكار وسوق الغرب والدكوانة.
بدأ الاحتفال بدخول موكب الأساتذة والخرّيجين، ثم البطريرك يرافقه رئيس الجامعة الدكتور الياس وراق. بعد النشيد الوطني، رحّبت مقدّمة الاحتفال الدكتورة مارلين كنعان، بالحضور، داعيةً البطريرك يوحنّا العاشر إلى تلاوة الدعاء.
وألقت الطالبة سالي منصور، من كلية الصحّة العامة وعلومها، كلمة الخرّيجين، فشكرت “العائلة البلمندية الحاضنة”، معربة عن فخرها بالانتماء إلى هذه الجامعة قائلةً: “ألفُ شُكرٍ وامتنان لجامِعتِنا، إداريّيها، طواقِمها التعليميّة. نودِّعُكم وبقلبِنا أجملُ الأثر، سنتابع في حياتنا المبادئَ الساميةَ التي أخذناها وتعلَّمناها مِنكِ. وسوفَ تبقى جامعتنا الصرحَ التعليميَ المميزَ لجيلِنا ولأولادِنا في المستقبل. تعلَّمتُ منها، أنَّ الخوفَ والتردّدَ مقرونانِ بالفشلِ دائمًا، وأنَّ الاجتهادَ والإقدامُ، هما أُساسُ النجاحِ والتقدُّمِ وحوافِزُ النهوضِ والاستمرار”.
وقال رئيس الجامعة في كلمته: “في كُلِّ مَرَّةٍ أَقِفُ في حَفلِ التَخرُّجِ تُخالِجُني مَشاعرٌ مُتضارِبةٌ. مَشاعِرُ فَرحٍ لِرؤيةِ أَجيالٍ نَشأت في هَذا الصَرح العِلميّ وَتعلَّمَت مِنهُ لُغةَ الحَياةِ، وَمَناهِجَ التَفكِيرِ، وَمَكارِمَ الأَخلَاقِ. ومَشاعِرُ حُزنٍ لِفِراقِ أَبناءٍ تَرعرَعُوا فِي أَروقَةِ هَذه الجَامِعة، فَبادَلُوهَا حُبَّاً وَعَطفاً وَعِلماً وَوفاءً. وَهَذا الحُزن يَكمُنُ في إِدرَاكِنا أَنَّ العَددَ الأَكبَرَ مِنكُم يَطمَحُ لِمُغادَرةِ بَلدٍ أَحَبُّوهُ حُبَّاً جَمَّاً وَلكِنَّهُم سَئِموا عَيشَ مَآسِيهِ المُتكَرِّرة، وَأَحزَانِهِ الدَّائِمة.
فِي السِنين المَاضية تَوجَّهتُ إِلى البَلَمنديِّين والبَلَمندِيَّات الذِّين سَبَقوكم مِن عَلى هَذا المِنبَر، بِوصَايا أَبويَّة، وكُنتُ أَحُثُّهم أَن لا يَيأَسوا ولا يَتخاذَلوا. أَمَّا اليَوم فَأقولُ لَكُم إِنَّكُم أَنتُم حُماةُ المُستقبَل، وَأنتُم حَامِلو المَسؤولية، وأَنتُم حُلُم الوَطَنِ وأَمَلِهِ. نَعم أَنتُم حَاضِرُ هَذا البَلدِ، وَشُهودُ مَاضِيهِ، وَجُنُودُ مُستَقبَلِهِ”.
أضاف: “في هَذَا الزَمنِ الصَعبِ، وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ العَصِيبَةِ، تَجِدون أَلفَ سَببٍ وَسَبَب لِتهجُروا بَلَدَكُم، وَتُهاجِروا مِن دُونِ تَردُدٍ أَو نَدَم. فِي خِضَّمِ هَذِهِ الأَزمَاتِ المُتكرِّرة تَختَفي كَلِماتُ الأَمَل، وَتَنْضُبُ تَعابِيرُ التَفاؤُل. وَلَكِن أَعودُ لِأَقُولَ لَكُم لَا تَتَخلُّوا عَن مَسؤُولِياتِكُم تِجاهَ وَطَنِكُم. أَحِبُّوهُ مِن دُون مُقابِل. وَأَحِبُّوهُ بِأنَانيةٍ كَما تُحِبُّونَ أَنفُسَكُم، وَأَحِبُّوهُ بِحَنانٍ كَما تُحِبُّونَ أَهلَكُم، وَأَحِبُّوهُ كَي يَبقَى شُعلةً فِي قُلوبِكُم وَعُقُولِكُم وَوِجدَانِكُم، وَإِن غَادَرَتْهُ أَقْدَامُكُم.
نَعَم أَنتُم المَسؤُولون فِي بَلدِ اللامَسؤُولين. أَنتُم مَسؤُولُون عَن تَوعِيةِ شَعبٍ أَنهَكَتهُ حُرُوبُ المَاضي، وَأَزَماتُ الحاضر، وغيابُ المستقبل. أَنتُم مَسؤولُونَ عَن إِعَادةِ رُوحِ الأَملِ في قَلبِ شَعبِكُم، هَذا الشَعب الذي سَئِم فَسادَ حُكَّامِه، وَاستِبدَادِهِم، وَغِياب ضَمائِرهِم، وَهَوسِهِم بِالسُلطَة، والمَناصِب والمَال الحَرام.
نَعم أَنتُم المَسؤُولون عَن تَوعِيةِ شَعبِكم، هَذا الشَعب الذّي تَعمَّدَ حُكَّامُهُ أَن يَزِيدُوهُ فَقرَاً وَجَهلاً وَيأَساً وإِحبَاطاً. تَعمَّدُوا أَن يُهَجِّروا شَبابَهُ الطَامِح المُتعلِّم، وشِيبَهُ المُثَّقَف، المُبدِع، لِكي يَتحكَّمُوا بِمن آثَرَ البَقاء فَيجعَلوا مِنهُ عَبداً ذَلِيلاً، رَاضِخاً لِأَهوائِهِم، مُتغَاضِياً عن جَهلِهِم، مُسامِحاً لِهدرِهِم وفَسادِهم وَغِيِّهم. نَعم هَذِه مَسؤولِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنكُم، أَن يَستَنهِضَ حُريَّةَ الفِكرِ في هَذا الشَعب الذِّي فُرِضَ عَليهِ العَوَز بَعدَ أَن سُرِقَ جَنى عُمرهِ، وَتَلاشَت أَحلامُهُ في عَيشٍ كَرِيمٍ، وَسُلِبَت كَرَامَتُهُ عَلى يَدِ تُجَّارِ الهَيكَل.
وَنَعَم أَنتُم المَسؤولُون عَن اِسترجَاعِ وَطنٍ مِن يَدِ حُكَّامٍ مُغتَصِبِين لِحقُوقِ شَعبِهِم، مُراهِنِينَ عَلى يَأسِ الشَبابِ وَهِجرةِ الأَبنَاءِ. فلا تَتهاونُوا ولا تَتَراجَعُوا. نَعم كَما قَال جُبران خَليل جُبران “قَد تَبكِي وَهذَا حَقُّكَ، وَقَد تَحزَن وَهذَا حَقُّكَ، لَكنْ إِيَّاكَ أَن تَنْكسِر”. فإِيَّاكُم أَن تَنكَسِروا أمَامَ مَصاعِبِ الحَياةِ، وإِيَّاكُم أن تَتراجَعوا عَن تَحقيقِ أحلامِكُم. وَلأجل حِمايةِ هَذهِ الأَحلَامِ، وَحِفظِ الأَمل بِالمُستقبَل، تَعَّهدَت جَامعةُ البَلَمند أَن تَلتَزِمَ بِمساعَدةِ كُلِّ مَن تَواجَد فِي حَرَمِها، مِن طُلَّابٍ وَأَساتِذةٍ ومُوظَّفِين. فَأبَت أَن تَكُون مَصنَعاً يُنتِجُ الشَهادَات ومَكتباً يَخلِقُ فُرصَ العَمَل. فَهذِه الجَامِعة المُبارَكَة مِن كُلية الطُوبى، سَيدة البَلمَند، أَبَت إِلا أَن تَعيشَ وَجعَ طُلَّابِها وَمُعاناةِ أَهلِهِم، فتَحمَّلت مَا تَحمَّلَتْهُ مِن أَعباءٍ مادّيةٍ، رَافضةً عَلى مَدى سَنَتين أَن تُشارِكَ هَذِه الأَعبَاء مَعَهُم، شُعُوراً مِنها بِأنَّ وَاجِبَها أَن تَكُون رافعةَ الأَمَان ومَصدَرَ الاطمِئنَان لِمُجتَمَعِنا”.
وَتابع: “كَذلِك كَان التَعاطِي مَع الطَاقَمِ التَعلِيمي والإِدارِي، بِحَيثُ سَعَت الجَامعة، بِحسَبِ إِمكانِيَّاتِها، إِلى مُسانَدَتِهِم مَاديّاً لِلحِفاظ عَلى أَبسَط مُتطَلِّباتِ العَيشِ الكَريم، عِلماً أَنَّ جَامعةَ البَلمند هي مِن الجَامعاتِ القَليلةِ الغَيرِ مَدعُومة لَا من سَفاراتٍ، وَلَا مِن دُوَلٍ، وَلَا من أَحزابٍ، وَ ذَلِكَ لِيَبقى قَرارُها حُرّاً مُستقِلاً لا مَرهُوناً ولا مُصَادَراً.
وَبِهذا قَدَّمَت جَامِعةُ البَلمند مِثالاً يُحتَذى بِهِ في تعَزيزِ دَورِ الجَامِعاتِ عَلى صَعيدِ المُجتَمعِ والوَطنِ عَلَّ مَن هُم سَاسةٌ في هَذا الوَطن يَتعلَّمون مَعنَى المَسؤُوليّة ومَعنَى المُواطَنَة. وَلكِن مَع الأَسَف فَهُم لَا يَقرأون لِيتعلَّموا، وَإِن قَرأوا فَهُم لَا يَفقَهُون مَا يَقرأون. فَهُم عَبَدةُ مَالٍ وَسُلطَةٍ، وَأنتم رِجالُ عِلمٍ وَمَعرِفةٍ.
وَكَما قَالَ الإِمامُ عَليّ بِن أَبي طَالِب “الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، فالْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ”.
هَؤلُاءُ هُم حُكَّامنا، الكَثِيرونَ حَولَ السُلطَة، والقَلِيلونَ حَول الوَطن. لَا أَدري مَن مِنهُم باعَ الوَطن وَلَكِنّني أَعلَمُ وأَرى مَن دَفَعَ الثَمَن. فَكَمَا قَالَ أَحَدُهُم “فِي وطَنِي يَستَشهِدُ بَائِعُ الزُهور، وَيُعتَقَل بَائِعُ الخُضَار، ويُجَرَّم بَائِع البِقالَة. فَفِي وَطَني كُلُّ البَاعَة مُستَهدَفُون، إِلا بَاعةُ الوَطَن، فَهُم بِالأمنِ والتَرَفِ يَنعَمُون”.
فَنَعم أَنتُم المَسؤُولُون عَن إِعَادةِ وَطنٍ مَظلُومٍ لِشعبٍ مَقهُور وَتَذكَّرُوا دَومَاً، أَنَّ الفَسَادَ يَطولُ عُمرُهُ كُلَّمَا اِنسَحَبَ الشُرفاءُ طَمَعاً بِالسَلامةِ وَرَغَدَ العَيشِ. فَلا تَدَعوا فَسَادَهم يَطولُ وإِن طَالَت أَعمارُهُم. مِن هُنا أُقولُ إِن أَرَدتُم أَن تَكرَهوا حُكَّامَ وَطنِكم، إكرَهوهُم قَدرَ مَا تَشاؤُون. وَلكِن لَا تَكرَهُوا وَطَنَكُم، بَل بَايِعُوهُ وَلَا تَبِيعُوه. وَإِن تَرَكتُموه عُودوا إِليهِ مَتى اِستَطعتُم. وَإِن أَيسرتُم سَاعِدوا شَعبَهُ مَتى قَدِرتُم، فَلُبنانُ باقٍ بِوجُودِكُم، مُتألِّقٌ بِنُبوغِكُم، وَصَامِدٌ بِجُهدِكُم وَسَعيِكُم.
عُشتُم مَسؤولِينَ أَحراراً، عَاشَت جَامِعةُ البَلمَند، مِنبَراً لِلعلمِ والنَزَاهَة، وَعاشَ لُبنان، خَالِداً بِشَعبِه، كَريماً بِشَبابِه.
أما كلمة خطيب الاحتفال فألقاها الدكتور عصام عوض، الذي توجّه إلى الخرّيجين قائلًا: “لذا، أيها الخرّيجون الأعزاء، تذكّروا سبب مجيئكم إلى الجامعة، وما الذي جعلَكم تستمتعون وتنجحون في مادة أكثر من غيرها. لن تجدوا السعادة أبدًا ما لم تكونوا صادقين مع أنفسكم.
لقد أَكملَ كلُّ واحدٍ منكم دراسات مختلفة وأتقن المجال الذي اختاره. أنتم اليوم في القمة. لكن هل فكرتم بمدى أهمية هذه الدراسات لاحقًا؟ سيصبح الكثير مما تعلّمتموه قديمًا (ربما باستثناء علم اللاهوت) وستحتاجون لمواصلة العِلم، وإعادة تقييم الأفكار القديمة واكتساب أفكار جديدة.
في العلم، تُعرَف هذه العملية بـ “فرضية التطور”. فمتى كان هناك أيُ التباس، نقوم بإلغاء الأفكار السابقة ونؤيّد أفكارًا جديدة. تعلّموا اتّباع هذه الطريقة. إذ سيتّم دحض العديد من النظريات التي كنتم تعتمدون، وستَظهر مفاهيم جديدة لم يعرف بها حتى ألمَع أساتذتكم. لقد اكتشف زملائي مؤخرًا إثر ملاحظات في المختبر، أن الجزيئات الصغيرة التي تُنتجها البكتيريا في الأمعاء يمكن أن تسبب نزيفًا في الدماغ البشري، وذلك فقط عندما تتعطّل بعض الجينات في الدماغ. من كان يظنّ ذلك؟ ويا لها من آثار هائلة على علم الأحياء والطب! نعم، سوف تصبحُ الشرائع التي تعلّمتها مؤخرًا في الجامعة مراجع تاريخية في حياتك، تتلاشى في ضوء المعرفة الجديد الساطع”.
أضاف: “أحبائي الخرّيجين، لقد أُعدِدتم بتراث روحي غنيّ وخلفية أكاديمية متينة. على الرغم من التحدّيات الهائلة، فقد منحَكم أهلكم وأساتذكم وأصدقائكم حبًا كبيرًا. لا تهدروا هذه الثروات التي لا تقدَّر بثمن. مهما كلّف الأمر، لا تنسوا أبدًا من أنتم، احذروا الأكاذيب، انطلقوا وعيشوا بالفضيلة. ستجدون الراحة في ذلك.
مع غروب الشمس على هذه السواحل، التي شهدت آلاف السنين من التاريخ، ينطلق كل واحد منكم الليلة في رحلةٍ فريدة. أتمنى أن تجدوا الحياة السعيدة عند كل منعطف وتحوُّل من هذه الرحلة الرائعة”.
إثر الانتهاء من إلقاء الكلمات، بدأت عملية توزيع الشهادات، حيث سلّم الدكتور وراق وعمداء الكلّيّات الشهادات على الطلاب حسب الترتيب الآتي: معهد القدّيس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة، كلّيّة الآداب والعلوم، كلّيّة إدارة الأعمال، كلّيّة الهندسة، كليّة عصام فارس للتكنولوجيا، كلّيّة الصحّة العامّة وعلومها، كلّيّة الاختصاصات الطبّيّة وكلّيّة الطبّ والعلوم الطبّيّة.
وبعد الانتهاء من توزيع الشهادات، منح رئيس الجامعة رسميًّا الشهادة للمتخرّجين.