توقف "الجيب" الاسرائيلي قبالة حديقة بيته، الذي ازدحم بمن هربوا من وحشية القصف الاسرائيلي على بيروت، بعد احتلال الجنوب والجبل وحصار المدينة، وكنت وزوجتي وابني الرضيع "سعد" منهم...
ترجّل الجندي الاسرائيلي وراح يتقدم باتجاه الحديقة. كنا متعبين وصامتين بعد ليلة أحرق فيها الطيران الحربي المعادي وادي "شانيه" بأشجاره وأزهاره وبيوته... ليلتها قرّر ضابط مدفعية سوري أن يواجه منفرداً، بعد أن انسحبت فرقته على غير هدى عبر الدروب الضيقة والوديان... في كل مرة كان يطبق السكون على ليل "شانيه" حتى يفاجئنا ذلك البطل السوري بأن يطلق من مدفعيته، ما تبقى من كرامة عربية فيطمئن صاحب الدار لأن البطل لا زال صامدا ويقاوم وحيداً حتى صمت نهائياً عند الفجر وصمتنا معه صمتاً مريراً.بلغ الجندي الاسرائيلي باب الحديقة حين وقف مضيفنا وتقدمته يده الممدوة بوجه الجندي:
الى اين!؟
الجندي: الضابط يرى بأن بيتك مناسب ليرتاح قليلاً، ويأخذ حماما ثم نترككم بسلام
صاحب الدار بثبات وتصميم وبصوت حازم...
-لن تتجاوز حدود الحديقة.
تراجع الجندي وابلغ الضابط، ثمّ ركب "الجيب" وانسحبوا، فيما بقي صاحب البيت واقفا كأنه شجرة وسط الارزتين اللتين زرعهما في حديقته قبل سنين واصبحتا قبلة للعابرين...
يومها احسست ان حدود الحديقة كانت حدود عكا التي اُقتلع مع عائلته منها.. حدود فلسطين التي لم تبارح روحه وحديثه يوماً...
انه فاروق غندور الذي رحل قبل أيام، فاروق غندور ابن خالة غسان كنفاني والمؤتمن على نتاجه الأدبي والفني. فاروق غندور الذي كان من اوائل من آمنوا بي وفتحوا قلوبهم وبيوتهم لنتمرن ونغني لفلسطين.
تحية لروح الضابط السوري الذي واجه منفرداً واستشهد، تحية لروح غسان كنفاني الذي أسميت ابني سعدا تيمناً بقصته المحفورة في وجداني "ام سعد"، وتحية كبيرة للكبير فاروق غندور رئيس مؤسسة غسان كنفاني. فاروق غندور الذي جعل من حدود حديقته خطا فاصلا بين الكرامة والإذعان.(*) مدونة نشرها الفنان أحمد قعبور في صفحته الفايسبوكية