ما إن ألقى غاي سورمان، تهمة البيدوفيليا على فوكو، حتى تلقفتها وسائل الإعلام العربية بحماس، وبردود أفعال تراوحت بين التصديق والمبالغة في التصديق، بل وذهب أحد كتاب المقالات إلى إضافة تهمة جديدة، على الأرجح بصيغة بلاغية: فإن كان فوكو يمارس الجنس مع صِبيَة مدينة "سيدي بوسعيد" التونسية في المقابر، فلماذا لا يكون في الأمر أيضاً بعض النيكروفيليا؟تحمل التهمة مسوغات تصديقها، بلا شك، فتاريخ طويل من اشتهاء العين الكولونيالية للمُستعمَر، في صورة مجاز أو عبر الكثير من قصص الانتهاكات الجنسية التي تزخر بها السِّيَر والاعترافات الذاتية، ما زالت تحوم فوق رؤوسنا إلى اليوم. أما الضجة التي انطلقت قبل شهور في فرنسا، كاشفةً استفحالاً مزمناً لانتهاك الأطفال وسِفاح القربى يطاول كافة طبقات المجتمع جعل التهمة رائجة حد المشاع.ومن دون حاجة للاستغراق في سيرة فوكو أو كتاباته، فإن الحياة المنذورة لمقاومة كل صور السلطة، والمنغمسة في سلاسل من مغامرات اللذة، من أول عقاقير الهلوسة إلى نوادي السادية-المازوشية، دفعت البعض للمساواة بين مثلية فوكو وبين اتهامه بالبيدوفيليا، باعتبار الواحدة منهما دليلاً على الأخرى. لكن ذلك الخلط المعوج، الناتج عن سوء الفهم أو التضليل المتعمد، يتذرع بأفكار فوكو نفسه. فإسمه بين الموقعين على عريضة 1977 الشهيرة، الداعية إلى إلغاء تجريم العلاقات الرضائية بين البالغين والقُصَّر في القانون الفرنسي. وكذا في كتاب "خطر جنسانية الطفل" المعتمد على حوار إذاعي اشترك فيه فوكو، يبدو واضحاً أن الجدل الدائر حينها كان متعلقاً بقضية بعينها تنظرها المحاكم الفرنسية، وأن الموقّعين والمساهمين في الحملة أعلنوا بوضوح أن انخراطهم لا يعني بأي شكل أنهم هم أنفسهم بيدوفيليون، بل وببساطة أكدوا أن حملتهم لن تغير القانون أو تقود لإلغاء سن الرشد. ومع هذا، وحتى لو كان فوكو ورفاقه يمارسون الدور السقراطي للفلسفة، أي محاولة زعزعة الثابت والمتفق عليه ومسألته، من موقع نصف سفسطائي يتولى دور محامي الشيطان، بلفت الأنظار إلى نسبية القيم وتاريخانيتها وضرورة مراجعتها دائماً، أي حتى ولو أن الأمر ليس سوى تدريب خطابي، فحُجج فوكو في ذلك الحوار، بركاكتها ورعونتها غير المسؤولة تجاه القُصَّر، ربما تكفي وحدها كمسوّغ لقبول التهمة ضده.وبالعودة إلى الحاضر، فأن مبدأ تصديق الناجيات/ين، يجعل من التشكك في روايات الانتهاك مهمة خطرة، محفوفة باتهامات الاعتذارية والتحايل أو التواطؤ. لكن، ومن باب الإنصاف، فبعض الارتياب أو التشكك الحميد يظل لازماً لفحص التهمة. فانتماء سورمان السياسي يمكن أن يثير بعض التساؤلات حول دوافعه. فموقعه في أقصى اليمين الفرنسي/الأميركي، ودفاعه عن ماري لوبان وحزبها اليميني المتطرف، "الجبهة الوطنية"، وعداؤه المعلن لدولة الرفاه والسياسات العامة الاجتماعية، ونقده الدائم للصين الذي يمتد إلى كل ما هو آسيوي، بصبغة عنصرية،... ينفي على سبيل المثال إمكانية أن يكون القرن الجاري قرناً آسيوياً، بحجة افتقاد مجتمعات آسيا للقدر الكافي من مَلَكة الابتكار اللازمة لريادة العالم. كل هذا يضع سورمان في خصومة مباشرة فقط مع كل ما يمثله فوكو، بل وحتى مع الوسط واليمين المعتدل في فرنسا. لكن هذا لا يُعدّ سبباً كافياً لافتراض أن سورمان يختلق قصته أو أن الأمر مجرد افتراء. لكن قليلاً من التدقيق يكشف ثغرة تزعزع مصداقية الرواية كلها.يدّعي سورمان بأن زيارته لفوكو في محل إقامته، في سيدي بوسعيد في تونس، كانت في إجازة عيد الفصح العام 1969. وتقف على النقيض من هذا الادعاء، المشفوع بالتواريخ المحددة، حقيقة أن فوكو كان قد غادر تونس بشكل نهائي قبل ذلك بسبعة شهور على الأقل، وتحديداً في سبتمبر 1968. وقبل مغادرته بأيام، قام عدد من رجال الأمن التونسي بملابس مدنية، بالاعتداء عليه بالضرب داخل سيارته، ما دفعه إلى إلغاء إعارته مبكراً في جامعة تونس ومغادرة البلاد على وجه السرعة إلى فرنسا. ويعود دافع ذلك الاعتداء، إلى مشاركة فوكو الفعالة في انتفاضة الطلاب في الجامعة التونسية، والتي انطلقت بعد النكسة في العام 1967، وتصاعدت في العام التالي.في أكثر من مناسبة، قام فوكو بتهريب الطلاب المطلوبين من قوات الأمن ومساعدتهم في الاختباء في مكان إقامته، وتحولت حديقته الخلفية إلى مطبعة لمنشورات الطلاب وملصقاتهم، بل وأيضاً اقتطع جزءاً من راتبه للمساهمة في الدفاع عن الطلاب الموقوفين، ولاحقاً رتّب لقاءً مع الحبيب بورقيبة، وفي حضور السفير الفرنسي، للتوسط لإطلاق سراح الطلاب المحتجزين والذين تم تعذيبهم بشكل بشع، لكن جهوده باءت بالفشل. ويبدو أن صبر الأجهزة الأمنية مع فوكو كان قد نفد، بفضل أنشطته السياسية، وأصبح شخصاً غير مرغوب فيه في تونس.