وقع الرئيس المكلف سعد الحريري في "خطأ تكتيكي" بسيط عندما ورط نفسه بوعده حول "حكومة العيد" وبمهلة
48 ساعة، من دون أن يكون مستندا الى معطيات جديدة، ومن دون أن يعكس حقيقة ما جرى في لقائه مع الرئيس
ميشال عون، ليجد نفسه في اليوم التالي مضطرا للأنتقال من "التبشير" بولادة حكومة قبل عيد الميلاد، الى "نعي"
هذا الأحتمال والأعلان عن ترحيل الحكومة الى ما بعد رأس السنة، ومعترفا بعد شهرين من تكليفه بوجود عراقيل
واضحة تمنع صدور مراسيم الحكومة...
يبرر الحريري إشاعته وتسويقه للأجواء الإيجابية بأنها إستجابة لطلب مباشر من الرئيس عون الذي تمنى عليه
التصريح بوجود إيجابيات يتم العمل على إستكمالها، ويبرر التبدل الحاصل وتبدد الأجواء الإيجابية الى "وطاويط
القصر" التي تحركت ليال لتعكير الجو والإعداد لجولة جديدة من التعقيدات، وأشاعت مناخا سلبيا عن نتائج الإجتماع
قبل حصوله... ولكن أوساطا قريبة من قصر بعبدا تشير الى لعبة مفضوحة يمارسها الحريري، لعبة تضييع الوقت
وتبرئة نفسه من وضع العراقيل وإلصاق التهمة برئيس الجمهورية ميشال عون ومن ورائه بالوزير جبران باسيل،
مشيرة الى إنزعاج الرئيس عون الشديد من "إقدام الحريري بعد كل زيارة الى بعبدا على مناورة إحراج رئيس
الجمهورية في مسألة التعطيل والخروج بعد اللقاء ليصّرح بأن الأجتماع كان إيجابيا وثمة بوادر لوالدة الحكومة، فيظهر
عون هو المعرقل، وهذه لعبة تكتيكية أضحت مكشوفة وليست إلا محاولة للإستثمار في الوقت الضائع.
لم يعد مهما تحديد المسؤوليات ولا الخوض في التفاصيل المملّة في الملف الحكومي وفي الخلافات الناشبة حول
الحقائب وتوزيعها السياسي والطائفي، والتي رست عند حقيبتين أساسيتين: الداخلية والعدل... فالمسألة أبعد وأهم من
مسألة حقائب وأسماء، وما يجري من تأخير متماد ومن مراوحة قاتلة يدل الى عمق الأزمة والى وجود أسباب وقطب
مخفية تؤخر تشكيل الحكومة وتر ّحلها الى العام المقبل، وأبرزها:
1"-الأهمية الفائقة" للحكومة الجديدة التي صار من شبه المؤكد أنها آخر حكومة في عهد الرئيس ميشال عون،
وأنها الحكومة التي ستتولى إدارة الأستحقاقات الدستورية والسياسية، وأبرزها الانتخابات النيابية والرئاسية... وما بعد
هذه الإستحقاقات في ظل توقعات ومؤشرات أولية تنبئ باحتمال عدم حصول انتخابات نيابية في موعدها في ظل تفجر
الخلاف حول قانون الانتخاب وبهذه الحجة، ما يؤدي الى التمديد للمجلس النيابي الحالي أسوة بما حدث مع مجلس العام
2009 ،وباحتمال حدوث فراغ رئاسي في ظل خلاف مستحكم حول الرئيس المقبل والبديل على غرار ما حدث بعد نهاية
ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان.
الحكومة الجديدة التي ُوصفت في البداية بأنها "حكومة مهمّة" جاءت من أجل مهمة محددة )إصلاح وإنقاذ ( ومن
ضمن مهلة محددة ) ستة أشهر (، ليست كذلك وإنما هي "حكومة آخر العهد" والتي ستجد نفسها أمام مهمّات وأوضاع
أستثنائية... ولذلك تكتسب أهمية في تركيبتها ومعادلتها ذات الصلة بحسابات المرحلة المقبلة وبمرحلة ما بعد عون...
2-الوضع الدقيق والحساس الذي يتواجد فيه طرفا المعركة الحكومية، رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، والذي يدفع بهما الى التشدد وعدم التنازل:
- الرئيس ميشال عون لديه مشكلتان أساسيتان: الأولى مشكلته مع الحريري في أن ثقته به تزعزعت بشكل كبير
منذ أن خذله وتنصل من موجبات التسوية بعد ثورة 17 تشرين ولم يعد ير فيه الشريك المناسب أو الأنسب في الحكم،
ولا المسؤول الجدير بقيادة عجلة الإنقاذ والمرحلة الأصعب في تاريخ لبنان. وإذا كان عون وافق على مضض على
تكليف الحريري، فإنه ما زال عند حذره وليس واثقا في قدرات الحريري وفي إمكانية التعايش معه مجددا تحت سقف الحكم. والمشكلة الثانية عند الرئيس عون أنه معني بمشكلة الوزير جبران باسيل في أنه يواجه هجوما شامال منسقا لعزله وقطع الطريق على مشروعه الرئاسي، وفي أن الحريري يستضعفه بعد العقوبات الأميركية ويعمل على تجاهله وإضعافه... وبالتالي، فإن عون لن يقبل أن تستخدم الحكومة الجديدة لكسر باسيل وإلحاق الهزيمة السياسية به، في وقت تتعرض رئاسة الجمهورية لضغوط متزايدة.
- أما مشكلة الحريري، فإنها تقع في مكان آخر، ولكنها لا تقل دقة وصعوبة... الحريري متهيّب للموقف ومحاصر بأوضاع داخلية وخارجية تجعله عاجزا عن التقدم الى الأمام أو التراجع الى الوراء. وفي كلتا الحالين هناك ثمن يدفعه. فإذا أراد أن يشكل حكومة لا يمكنه ذلك إلا وفق شروط عون وحزب الله، وإذا فعل يعّرض رصيده السياسي
والشعبي للخطر، وكذلك علاقاته العربية لا سيما السعودية والدولية، لا سيما مع الولايات المتحدة التي تسلّط فوق رأس
كل الطبقة السياسية الحاكمة، ومن ضمنها الحريري، سيف العقوبات، والذي يمكن أن تستخدمه في ما تبقّى من والية ترامب إذا ذهب الحريري الى حكومة يشارك فيها حزب الله وواقعة تحت تأثيره وسيطرته.
أما إذا قرر الحريري الإنسحاب والإعتذار عن عدم المضي في مهمة التشكيل، فإنه يجازف بفرصته الأخيرة للعودة
الى رئاسة الحكومة عشية إستحقاقات شعبية وسياسية، وقبل أن تداهمه أوضاع لا يعود فيها متحكما بزمام المبادرة
والزعامة وتخرج عن السيطرة... فالحريري بحاجة الى البقاء في "معادلة الحكم"، وخروجه منها هذه المرة محفوف
بخطر واحتمال عدم العودة. ولذلك هو عاقد العزم على البقاء والإستمرار في هذا الوضع من عدم التشكيل وعدم الإعتذار
للبقاء في المعادلة الى أن "يقضي الله أمرا كان مفعوال".
3-العوامل والظروف الخارجية التي لا تلعب في مصلحة الحكومة والتعجيل في والدتها... فمع حصول التغيير في
الرئاسة الأميركية، حصل إنقالب في المعطيات الإقليمية ودخلت المنطقة تحت تأثير مرحلة أميركية إنتقالية، خصوصا
على مستوى المواجهة بين إيران وأميركا المفتوحة على إحتمالات المفاوضة في عهد بايدن، ولكن المسبوقة بمرحلة
تجميع أوراق التفاوض ونقاط القوة. ولبنان جزء من المسرح الإقليمي لهذه المواجهة وورقة تفاوض أساسية في يد إيران... وحزب الله لن يعطي الأميركيين الحكومة التي يريدونها في لبنان، ولن يعطي للحريري فرصة التصرف من
موقع الرابح ومن يفرض الشروط، ولن يسهل عملية تشكيل الحكومة إلا إذا قامت وفق تصوره وشروطه، أي تكون
عمليات نسخة منقحة عن حكومة حسان دياب... يُضاف الى ذلك أن قوة الدفع الفرنسية لتشكيل الحكومة قد تلاشت بعد
تعثر مبادرة ماكرون في لبنان وانهماكه في مشاكل داخلية وضغوط خارجية... وعليه، فإن كل المؤشرات تدفع الى الإعتقاد بأن الجميع ينتظر خروج ترامب من البيت الأبيض وتسلم بايدن، وبأن حكومة الحريري لن تُشكل قبل
20 كانون الثاني المقبل.