

بعد عدوانين وترميمين، تعود «فيلوسوفيا» في منطقة حارة حريك بصمود بائعها عباس فقيه، رافعاً الكتاب في وجه الركام. من مقهى كتب إلى مكتبة تقاوم الحروب والأزمات، تثبت الحكاية أنّ شغف القراءة أقوى من القصف، رغم خسائر متكرّرة. مكتبة تعريف الثقافة كفعل مقاومة يومي في قلب الضاحية
في العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، تعرضت مكتبة «فيلوسوفيا» الشهيرة في منطقة حارة حريك (ضاحية بيروت الجنوبية) لأضرار كبيرة. لكن سرعان ما أعادها «شغف بائع الكتب» لدى صاحبها عباس فقيه إلى واجهة الحدث الثقافي في الضاحية الجنوبية مجدّداً. وجاء الاعتداء الأخير الذي استهدف القائد هيثم الطبطبائي كمحطة جديدة للمكتبة مع الإرهاب الإسرائيلي وآثاره المدمرة، فماذا يقول صاحبها هذه المرّة عن شغف الكتاب والقراءة على خط النار؟
2018: ولادة المشروع
لم يكن عباس فقيه بعيداً من عالم المكتبات قبل عام 2018، إذ كان يدير مؤسسة «الرضا» التي تؤمّن الكتب «بالجملة والمفرّق» لمكتبات الضاحية وقرّائها. لكنّ هذا العام شهد ولادة مشروعه الذي حلم به طويلاً.
مقهى كتب في إسطنبول التي يقصدها في رحلاته الدائمة إلى معارض الكتب، أعطى حلمه شكلاً واضحاً ومحدّداً، وتزايد الطلب على الكتب الفلسفية التي يحضّرها لزبائنه من معارض مصر والعراق والخليج أوجد له الاسم. لم يبقَ سوى الافتتاح.
«حبّ الحكمة» في الضاحية
يشرح فقيه في حديثٍ معنا أنّ «فيلوسوفيا» هي الأصل الذي اشتُقَّت منه الكلمة العربية «الفلسفة» وهي كلمة لاتينية معناها «حبّ الحكمة»، ولم يجد أنسب منها كي تزيّن مشروعه الجديد يومها، وهو الذي يدين بتزايد حماسته لهذا المشروع لقرّاء هذا النوع من الكتب تحديداً. وكان من الطبيعي أن يختار فقيه الذي يعيش في الضاحية الجنوبية مكاناً قريباً من مكان سكنه ليستقرّ فيه مشروعه الجديد، فضلاً عن إيمانه بأنّ ممارسة كل شكل من أشكال الحياة في الضاحية هو تعبير عن الصمود والاستعداد للتضحية.
صمود رغم الأزمات المتلاحقة
لم تكد «المكتبة – المقهى» تنطلق وتجد لنفسها مكاناً في قلوب القرّاء والزبائن، حتى جاءت الأزمات تباعاً، من الأزمة الاقتصادية بتداعياتها المدمرة، إلى انتشار جائحة «كورونا» والتزام الناس منازلهم وتأثر الحركة التجارية بشكل عام، إلى الحرب الأخيرة المستمرة منذ أكثر من عامين بأشكال مختلفة. ومن الطبيعي في أزمنة الأزمات أن تتبدّل الأولويات وينحسر اهتمام الناس بالكتاب لمصلحة حاجات أخرى أكثر إلحاحاً يصير أمامها بمنزلة «ترف» أو «رفاهية». كل ذلك دفع فقيه إلى محاولة التأقلم وبيع الكتب بما يقارب سعر الكلفة أحياناً كي يضمن لمشروعه الاستمرار.
خلال الحرب، ظلّ الفريق ينشر يومياً عبر حسابات المكتبة على وسائل التواصل الاجتماعي
وجاء إقفال المقهى تزامناً مع انتشار كورونا والاكتفاء ببيع الكتب «أونلاين» ليتقاطع مع رغبة لدى فقيه في الإقفال الموقت للمقهى تمهيداً لإعادة ترتيب المشروع بشكل لا تطغى فيه المقهى على المكتبة كما حصل عند نجاح المشروع وتزايد إقبال الناس عليه، فما كان يريده هو «مكتبة ومقهى ملحق بها» لا «مقهى ومكتبة ملحقة به».
تواصل مع الجمهور
رغم الخطر الكبير والقصف الوحشي الذي تعرّضت له ضاحية بيروت الجنوبية، لم ينقطع فقيه عن مكتبته طوال 66 يوماً، فحافظ على حضوره فيها لمدّة ساعتين يومياً وبمعدّل خمسة أيام في الأسبوع، تحت عنوان تأمين الكتب المطلوبة «أونلاين»، ولكن أيضاً للاطمئنان على المكتبة وطمأنة الناس عليها.
يلفت في حديثه معنا إلى أنّ المكتبة لم تنقطع عن جمهورها في تلك المدة، إذ كانت إحدى الموظفات تتولى النشر يومياً عبر حسابات المكتبة على وسائل التواصل الاجتماعي محافظةً على التماس مع القراء عبر أسئلة يومية عن الكتب التي يقرؤونها حاليّاً وما ينوون فعله بعد انتهاء الحرب وما شابه.
وفي اليوم الأخير من الحرب، كان نصيب المكتبة أن تعرّض المبنى الملاصق لها للقصف وسقط ركامه فوقها، فتتضرّر بنسبة 45 في المئة. ومع سريان وقف إطلاق النار، تجنّد فريق المكتبة سريعاً لإعادة الوضع إلى ما كان عليه، وأعاد تركيب الأبواب الجرّارة والواجهات الزجاجية بيديه. وبمرور أسبوع واحد، كانت المكتبة جاهزة لاستقبال الزبائن مجدّداً.
لكل كتاب حكاية
يصف فقيه زبائن المكتبة بالأصدقاء، مؤكداً على أنّ علاقة جميلة يمكن أن تنشأ على حواف الكتاب، ومتحدثاً عن اتصالات متبادلة للاطمئنان بين الطرفين لم تنقطع طوال الحرب وبعدها. ويميّز في حديثه معنا بين «شغف بائع الكتب» وبين تعلّق أي شخص آخر بمهنته، مؤكداً على أنّ لكل كتاب حكاية وذكرى جميلة ترتبط مرّةً بشخص عرّفكَ إلى الكتاب، ومرّةً بشخص عرّفكَ الكتاب إليه.
العودة الثانية… ومفاجآت على الطريق
في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وبينما كان فقيه ينتظر مهندس الديكور للاتفاق على أعمال توسعة وتغيير للديكور تمهيداً لافتتاح المقهى في الطابق العلوي مجدّداً، وقعت الغارة التي نتج منها استشهاد القائد هيثم الطبطبائي ورفاقه، وتضرّرت المكتبة من جراء الغارة بنسبة 20 في المئة تقريباً هذه المرّة وفقاً لما يخبرنا فقيه. ومباشرةً بدأت أعمال التنظيف والترميم، فـ «العزم الذي نراه في أهالي الشهداء والجرحى لا ينعكس لدينا إلا إصراراً وعزماً مماثلين» كما يؤكد لنا، واعداً «أصدقاء المكتبة» بالاستمرار وبمفاجآت جميلة على الطريق، ومؤكداً على أنّ «فيلوسوفيا»، ومعها كل الضاحية، ستعود أجمل مما كانت كما قال يوماً «عزيز الروح».