أمام تسارع التطورات الخارجية، وتصدّر الملف الفلسطيني ومحاولات وقف الحرب الإسرائيلية على غزة أولويّة المتابعات والحراكات الإقليمية والدولية، يبدو أنّ الوضع في لبنان، قد نُحي جانباً ورُكن على الرفّ في هذه المرحلة حتى إشعار آخر، ويؤكّد ذلك انّ الهجمة السياسية والديبلوماسية العربية والغربية التي شُنّت عليه خلال الأشهر الأخيرة، وزحمة الموفدين التي تفرّعت عنها، قد بهتت إلى حدّ لم يعد لها أثر ملحوظ. وتبعاً لذلك تُرك لبنان ساحة مستباحة للإعتداءات الإسرائيلية، كما للإشكالات الداخلية والمصادمات السياسية على صغير الأمور وكبيرها، بما يشرّع الباب واسعاً على تداعيات وارتدادات سلبية على كلّ المستويات السياسية وحتى الرسمية.
سياسياً، برزت أمس، جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت في القصر الجمهوري في بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون وحضور رئيس الحكومة نواف سلام والوزراء، وتمحورت حول التقرير الشهري للجيش اللبناني في ملف سحب السلاح، وكذلك حول موضوع الإشكالية التي لا تزال قائمة ولم تجد طريقها إلى الحل بعد، والمرتبطة بملف «أزمة الروشة» وتداعياتها التي تتراكم، وتحديداً في ما يتصل بطلب إلغاء الترخيص لجمعية «رسالات» القريبة من «حزب الله».
وخلال الجلسة، قدّم قائد الجيش العماد رودولف هيكل تقرير الجيش في ملف سحب السلاح، مركّزاً فيه على العمل الذي يقوم به في منطقة جنوب الليطاني بالتعاون والتنسيبق مع قوات «اليونيفيل»، متطرّقاً إلى المعوقات الأساسية التي تحول دون إكمال الجيش مهمّته، والتي تفتعلها اسرائيل باستمرار خروقاتها واعتداءاتها.
أما في ما خصّ العلم والخبر المتعلق بجمعية «رسالات»، فقرّر مجلس الوزراء، أنّه «بعد مناقشة طلب وزارة الداخلية حلّ الجمعية، وبعد الاستماع إلى آراء الوزراء، التي تبين منها توافر الأكثرية المطلوبة قانوناً للسير بحسب الأصول المنصوص عليها، تعليق العمل بالعلم والخبر المعطى للجمعية اللبنانية للفنون «رسالات»، لحين جلاء نتيجة التحقيقات الإدارية والجزائية التي تجريها كل من الإدارة والنيابة العامة التمييزية». ولحظ القرار «انّ حرص الحكومة على حرّية الجمعيات في ممارسة عملها كما كفلها الدستور والقانون، لا يتعارض مع إمكان اتخاذ تدابير إدارية تسمح للإدارة بممارسة صلاحياتها واتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان المحافظة على الانتظام العام والمصلحة العامة».
واستبقت جمعية «رسالات» جلسة مجلس الوزراء بالإعلان انّ «نشاطها مستمر، وستعلن قريباً عن عدد من الفعاليات وإنتاج أفلام قصيرة خاصة بموضوعي «طوفان الأقصى» و«معركة أولي البأس». وأضافت في بيان رداً على الجدل حول نشاط الروشة: «نحن لا نريد استفزاز أحد، ولم يكن هدفنا ذلك، ولسنا من حوّل النشاط إلى اي اتجاه سياسي». وأعلنت الجمعية «اننا سنتابع الموضوع القانوني حتى نهايته، ونعوّل على حرص الوزارة المختصة، وخصوصاً وزارة الثقافة، على حماية حق التعبير».
كل شيء وارد
المناخ الداخلي العام مأزوم حتى العظم، ومقبل على أي شيء في ظلّ التفشّي المرضي لما يبدو بكل وضوح، انّه حقد متبادل بين المكوّنات، وسيادة منطق التحدّي المتبادل، وانعدام الضوابط المانعة لتسرّع غير محسوب وغير مقدّر العواقب والتبعات من هنا، وشطحات غاضبة واستهدافات نكديّة وحاقدة من هناك، وانفعالات واستفزازات متعمّدة من هنالك، وجميعها تشكّل الوصفة الملائمة التي يتشارك فيها أطراف الصراع السياسي، لقطع ما تبقّى من خيوط رفيعة واصلة للعلاقات الداخلية على اختلاف مستوياتها.
من يُشعل الشرارات؟
والمريب في هذا الواقع المرضي، أنّه يستفحل داخلياً في اللحظة الحرجة التي يتأرجح فيها البلد فوق حقل واسع من الألغام المزروعة في كل مفاصله السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية. وقاربت مصادر مسؤولة رفيعة، ما يجري باستهجان وارتياب في آن معاً، وتؤكّد لـ«الجمهورية» انّها «لا ترى ما يبرّر إشعال شرارات التوتير بالشكل الذي تبدّى في الأيام الاخيرة، وما يوجب جنوح أي من الاطراف، سواء في الحكومة او خارجها، نحو خطوات تنطوي على تجاوز للأصول والقوانين، وعلى استهداف مبيّت ومقصود». وتطرح في الوقت ذاته تساؤلات جدّية حول ما إذا كان ما يحصل عفوياً ناجماً عن طيش سياسي وانفعال شخصي، وهذه الفرضية ممكنة، او ما إذا كان متعمّداً ومعبّراً عن إرادة حقيقية بالتوتير والتصعيد، وتلك بالتأكيد مصيبة على البلد، ولكن المصيبة اكبر إن كان موحى به من مكان ما».
نزيف!
على أنّ التوصيف الدقيق للواقع اللبناني في هذه المرحلة، جاء على لسان سفير دولة كبرى خلال الساعات الأخيرة. فبحسب معلومات موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ السفير المذكور قدّم امام محدّثيه صورة شديدة السلبية للوضع في لبنان، ونقل عنه قوله ما حرفيته: «التطورات الدولية تتسارع على مستوى العالم، ووضع لبنان استطيع أن اقول إنّه دخل، او بمعنى أكثر دقة أُدخل في دائرة «الجمود السلبي»، ولفترة غير محدّدة زمنياً، وانا اشعر بقلق بالغ من أن يتعرّض لبنان إلى نزيف على كلّ مستوياته، لا اقول فقط نزيفاً سياسياً او امنياً، بل لا استبعد النزيف الاجتماعي والمعيشي، بالنظر إلى حجم الاختلالات التي تعتري مختلف قطاعاته. المشكلة المتعاظمة ليس مردّها ضعف الإمكانات المالية والاقتصادية فحسب، وانما التأخّر في حسم ملف السلاح بالشكل الذي يحقق هدف حصرية السلاح بيد الدولة، وايضاً احتدام الصراع السياسي الداخلي الذي يزيد من إضعاف بنية الدولة، ويحدّ من قدرتها على توفير وتحديد المعالجات المطلوبة، وانتهاج المسار المؤدي اليها».
وساق سفير الدولة الكبرى مثلاً لافتاً في مضمونه حيث قال ما مفاده: «وضعكم في لبنان اليوم اشبه ما يكون بـ«لمبة» ضوؤها خافت، ممنوع أن يشعّ اكثر، وممنوع أن يخفت، ومن جهتي أتمنّى ألّا يخفت أكثر. ووفق ما هو متداول من تقديرات وما نقف عليه من معطيات، فالمؤشرات تغلّب أن يبقى هذا الوضع معلّقاً لمدى طويل، وربما إلى حين حسم بعض الأولويات الإقليمية، سواء ما يخص الوضع الفلسطيني والحرب في غزة، ربطاً بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، او ما يخصّ الملف الإيراني والتطورات التي تشهد تسارعاً كبيراً حوله، وكذلك الملف السوري وما سيرسو عليه في المدى المقبل».
مخاوف من ضغوط
إلى ذلك، كل اللواقط والمنصات الداخلية ترصد التطورات المتسارعة على الخط الفلسطيني، في ظلّ مبادرة الرئيس الأميركي لوقف الحرب. وتترقّب الاوساط السياسية مآلاتها، وما اذا كانت ستعبر بصورة جدّية نحو الحل المرجو والوقف الفعلي لإطلاق النار. وعلى ما يقول مسؤول كبير رداً على سؤال لـ«الجمهورية»، فإنّه «لا مكان للتفاؤل او للتشاؤم إزاء ما يجري، وبالتالي من السذاجة الحكم مسبقاً على ما يجري، بل يجب الانتظار ليتبين ما إذا كانت الخطة تسير نحو التطبيق السريع، او ما إذا كانت الشياطين الإسرائيلية متغلغلة في تفاصيلها، وهذا امر غير مستبعد ربطاً بالتجارب السابقة». واضاف ممازحاً: «ترامب قال انّه يريد جائزة نوبل، وإذا كانت هذه الجائزة هي الثمن المطلوب لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، فنحن مع السيّد نوبل، ونتمنى عليه أن يعجّل بمنح جائزته للرئيس الاميركي».
إلّا أنّ المسؤول عينه، وفي موازاة ما يروّج عبر بعض القنوات ومنصات التواصل الاجتماعي، من تهويل وسيناريوهات تخويفية، من أن يلي التهدئة في غزة، توجّه إسرائيلي لتصعيد عسكري على جبهة لبنان، أكّد «انّ التصعيد الإسرائيلي ضدّ لبنان لم يتوقف اصلاً، لكي يُقال انّ هناك تصعيداً، فنحن في حرب مستمرة علينا، وتتصاعد منذ اعلان وقف اطلاق النار في تشرين الثاني من العام الماضي، علماً انّ التصعيد متوقّع في اي لحظة طالما لا شيء يردّع إسرائيل، ومتحررة من أي ضغط من الأميركيين ولجنة الإشراف التي يرأسونها، يلزمها بوقف اعتداءاتها».
واستدرك المسؤول عينه قائلاً: «التصعيد وارد، ولكنه ليس مصدر القلق الوحيد، بل إنّ المقلق في موازاة ذلك، هو تسخين الداخل، سواء حول اختلاق أزمة سياسية كما هو حالنا في هذه الايام، ونتمنى ألّا تكون أزمة موحى بافتعالها من مكان ما، او بإثارة الملفات الخلافية من جديد، وهنا لا أُخرج من حسباني احتمال أن تُمارس ضغوط لإعادة وضع بعض الملفات على نار الانقسامات الداخلية، واشعال السجالات والمناكفات السياسية حولها.. يعني حملة متجدّدة على ملف سلاح «حزب الله» والتركيز على استعجال سحبه. وليس مستبعداً، إن نحى الوضع في غزة إلى تهدئة ما، أن يأتي أحد ما ويقول ها هي حرب غزة قد انتهت، ولم تعد ثمة حاجة للسلاح، وهذا الأمر يجب ان ينسحب على لبنان وسحب سلاح الحزب».
اعتداءات
أمنياً، يوم عدواني عنيف مرّ على لبنان أمس، كثفت فيه إسرائيل من اعتداءاتها على الأراضي اللبنانية، في وقت استقبل قائد الجيش العماد رودولف هيكل في اليرزة امس، رئيس لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائيّة (Mechanism) الجنرال الأميركي جوزف كليرفيلد، يرافقه الجنرال الأميركي مايكل لينوي، مع وفد، في زيارة وداعيّة. وجرى بحث الأوضاع العامّة في لبنان والمنطقة، ومراحل تطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائيّة.
وتركّزت الاعتداءات الإسرائيلية امس، على منطقة النبطية، حيث سقط شهيدان: حسن عطوي (وهو احد جرحى تفجير «البيجرز» العام الماضي، وضرير) وزوجته زينب رسلان. وأصيب اربعة اشخاص بجروح، باستهداف مسيّرة اسرائيلية لسيارتهما التي كانا متوجهين فيها لاصطحاب اولادهما من المدرسة في بلدة زبدين، وكذلك تركّزت الإعتداءات على منطقة الهرمل التي تعرّضت لسلسلة غارات جوية عنيفة استهدفت جرود بلدة حربتا ومحيط بلدة شعث، ومرتفعات بلدة زغرين في جرود الهرمل، وجرد نيحا وجرد قليلة. ويأتي ذلك بعد وقت قصير من ترويج أنباء باسم المجلس الإقليمي للجليل الأعلى، تفيد بأنّ الجيش الاسرائيلي سينفّذ عدة هجمات في عمق الأراضي اللبنانية.
وزعم الجيش الإسرائيلي بأنّ الشهيد عطوي «كان يشكّل عنصرًا مركزيًا في وحدة الدفاع الجوي لـ«حزب الله»، وأشرف على عمليات إعادة إعمار وجهود تسلح في وحدة الدفاع الجوي لـ«حزب الله»، وكان مركز خبرة مهماً فيها بالإضافة إلى تورطه في العلاقة والاستيراد من قادة الوحدة في ايران».
حول الغارات الجوية، أعلن الجيش الإسرائيلي انّه «شنّ هجمات باستخدام طائرات تابعة لسلاح الجو على معسكرات عسكرية لقوة «الرضوان» في منطقة البقاع، يستخدمها «حزب الله» لإجراء تدريبات وتأهيل، من أجل التخطيط وتنفيذ مسارات ضدّ جيش الدفاع الإسرائيلي ومواطني دولة إسرائيل».
وقال البيان: «كجزء من التدريبات والتأهيل في المعسكرات، يخضع الإرهابيون لتدريبات على إطلاق النار وتأهيل إضافي لاستخدام وسائل قتالية من أنواع مختلفة»، واعتبر انّ «تخزين وسائل القتال وإجراء تدريبات عسكرية ضدّ إسرائيل يشكّل انتهاكًا صارخًا للتفاهمات بين إسرائيل ولبنان وتهديدًا لدولة إسرائيل». وأعلن انّه «سيواصل العمل على إزالة كل تهديد على دولة إسرائيل».