2025- 09 - 22   |   بحث في الموقع  
logo من بيروت إلى نيويورك: دعم سعوديّ مشروط وخطوات دوليّة لمساندة لبنان logo عضو في الكونغرس الأميركيّ: الأشهر الأربعة المقبلة حاسمة logo صفحة جديدة أم مناورة قديمة؟ logo صفحة "المقاومة" طُويَت إلى الأبد logo إقالات تكشف عن صراع داخليّ في "الحزب" logo من بيروت إلى نيويورك: "عاصفة حزم" لاستعادة الدولة logo الممرّ الأوسط يهزّ خريطة العالم !… بقلم: د. إيمان درنيقة الكمالي logo مجزرة بنت جبيل.. الاستنكار لا يكفي!… حسناء سعادة
الممرّ الأوسط يهزّ خريطة العالم !… بقلم: د. إيمان درنيقة الكمالي
2025-09-22 05:20:43

في خضمّ أكثر المواجهات الجيوسياسية تعقيداً في القرن الحادي والعشرين، تحالف تركي–صيني من “الطراز الثقيل”  يلوّح في الأفق. 


 


فبعد أن هزّ مشروع الحزام والطريق الصيني العالم بضخامته وطموحاته ، وضعت تركيا ثقلها على الطاولة عبر طرح “الممر الأوسط” كورقة استراتيجية في لعبة الممرات الكبرى؛ الا أنّ اللحظة المفصلية جاءت من قلب قمة شنغهاي، حين أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مبادرة جريئة لربط “الممر الأوسط” التركي بالمشروع الصيني العملاق، في خطوة تتجاوز  الجغرافيا إلى رسم خريطة التجارة العالمية، وتقويض هيمنة القوى التقليدية.


 


هذا المشروع ليس مجرد صفقة تجارية، بل خطوة تاريخية ستضع العالم كله أمام منعطف حاسم،  حيث لا تكون التجارة منفصِلة عن الجيوبوليتيك، بل أداة في قلب معركة يُعاد فيها رسم خرائط النفوذ، وتُصاغ فيها معادلاتٌ جديدة قد تُغيّر شكل النظام العالمي الراهن. ما يدفعنا الى طرح السؤال التالي : 


 


ما طبيعة التحالف التركي–الصيني الجديد عبر “الممر الأوسط”، وما هي رهاناته الجيوسياسية، خصوصًا في ظل احتدام الصراع مع القوى التقليدية على طرق التجارة والنفوذ العالمي؟ 


 


الممرّ الأوسط: حلم تركي يمتد لقرون


 


ليس “الممر الأوسط” إلا تجسيدًا لحلم تركي قديم يعود إلى بدايات الألفية الثالثة، حين بدأت أنقرة في رسم رؤيتها لمشروع استراتيجي يعيد لها دورها المحوري في قلب أوراسيا. وفي عام 2009، طرحت تركيا خطتها لإنشاء شبكة ضخمة من الموانئ وخطوط السكك الحديدية تربطها بآسيا الوسطى، والقوقاز، وأوروبا. لم يكن الهدف اقتصاديًا فحسب، بل كان امتدادًا لرؤية قومية أعمق: إعادة وصل “العائلة التركية الكبرى” التي فرّقتها الجغرافيا، من كازاخستان وأوزبكستان إلى تركمانستان وقرغيزستان وأذربيجان.


 


أذربيجان: شريان الممر الأوسط


 


وفي قلب هذا الطموح، تتصدر أذربيجان المشهد كبوابة الحلم التركي ومفتاحه الجيوسياسي. فهي ليست مجرد محطة على خريطة “الممر الأوسط”، بل تمثل نقطة ارتكاز استراتيجية حوّلت المشروع التركي من تصور نظري إلى واقع جيوسياسي فاعل. لقد أدركت أنقرة مبكرًا أنّ أيّ مشروع لربط العالم التركي لن يُكتب له النجاح من دون أذربيجان، التي تشاركها اللغة والهوية، وتشكل معها بالفعل “أمة واحدة في دولتين”. وانطلاقًا من هذا الفهم، عززت تركيا علاقاتها مع باكو سياسيًا وعسكريًا، خاصة بعد أن أثبت التحالف بينهما فاعليته خلال حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في عام 2020. وقد توسّع التعاون ليشمل تدريب القوات، وتبادل الخبرات، وتوقيع معاهدات أمنية واقتصادية؛ مما ساعد أذربيجان على تطوير قدراتها الدفاعية وتوطين صناعات استراتيجية. بهذه الخلفية، أصبحت أذربيجان نقطة الانطلاق الحيوية للممر الأوسط، وواجهة تركيا نحو بحر قزوين وآسيا الوسطى، حيث تبني أنقرة اليوم جسور تعاون مع أوزبكستان وتركمانستان لضمان استمرارية الممر وتحصينه في وجه التحديات الجيوسياسية.


 


الحرب الأوكرانية: نقطة تحوّل لصعود الممر الأوسط عالميًا


 


رغم أن تركيا أرست خلال العقد الماضي أسسًا قوية لمشروع “الممر الأوسط” عبر إنجازات مثل نفق “مرمراي” (2013)، وخط السكك الحديدية عبر كازاخستان (2014)، وخط “باكو–تبليسي–قارص” (2017)، ظلّ المشروع لفترة طويلة محدود التأثير وخارج حسابات القوى الكبرى.


 


لكنَّ الحرب الروسيّة- الأوكرانية (2022) عطّلت الممرات الشمالية التقليدية بسبب العقوبات الغربية على موسكو، فتوجهت الأنظار إلى “الممر الأوسط” كبديل استراتيجي أكثر أمانًا لنقل البضائع من الصين إلى أوروبا، متجاوزًا مناطق التوتر. وبحسب “المجلس الأطلسي”، انفجر حجم الشحنات عبر الممر، متجاوزًا 3.2 مليون طن في عام 2022، مع زيادة كبيرة في عامي 2023 و2024.


 


وبهذا، فقد نقلت الحرب الاوكرانية “الممر الأوسط” من هامش الجغرافيا الاقتصادية إلى قلب “المعركة العالمية للممرات” ، حيث نزح مركز الثقل اللوجستي عن الطرق الشمالية الخاضعة للهيمنة الروسية نحو مسارات جديدة عند القلب الجيوسياسي لتركيا، متجاوزًا الأبعاد الاقتصادية إلى لعبة النفوذ العالمي.


 


الصعود الصيني الجديد في الممر الأوسط


 


ومع تبدّل موازين الطرق التجارية بفعل الحرب الأوكرانية، أدركت الصين أن الممر الأوسط يمثل فرصة استراتيجية نادرة، وأنّ السيطرة عليه باتت مفتاح القوة في القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد أن كشفت الحرب عن نقاط ضعف خطيرة في مشروع “الحزام والطريق”: فالممر الشمالي عبر روسيا أصبح محفوفًا بالمخاطر، والجنوبي عبر قناة السويس بات بطيئًا ومكلفًا بفعل الضغوط الأمريكية المتزايدة.


 


ولا تقتصر جاذبية هذا الممر بالنسبة للصين، على كونه أسرع أوأقصر زمنيًا، بل تنبع من ثلاثة أهداف جيوسياسية رئيسية: أولّا، تجاوز العقوبات الغربية وتفادي الطرق البحرية الخاضعة للهيمنة الأمريكية. ثانيا، تعزيز السيطرة الاقتصادية على آسيا الوسطى التي تعتبرها الصين ” الحديقة الخلفيَة” لمشروعها، اضافة الى توجيه الاستثمارات الضخمة نحو تركيا وأذربيجان وكازاخستان لضمان نفوذ طويل الأمد في مناطق حيوية. 


 


بذلك، يُعدّ هذا التوجه الصيني “تحولاً استراتيجياً مدروساً  لبناء شبكة “بديلة” بالكامل، أكثر أمانًا وفعالية، تمنح بكين نفوذاً أكبر في مناطق كانت روسيا تعتبرها تقليدياً مناطق نفوذ خاصة بها.


 


حرب الممرات الكبرى: مواجهة مفتوحة بين القوى العظمى


وفي هذا السياق، أطلقت الولايات المتحدة في قمة G20 في نيو دلهي، في عام 2023 مشروعا ضخما  تحت اسم 


‏India-Middle East-Europe Economic Corridor ، أو  “I.M.E.C”  وهو ممرّ يربط الهند بأوروبا عبر الخليج وإسرائيل، و يكون بديلاً استراتيجيًا لمشروع الحزام والطريق الصيني. 


 


أما روسيا، التي كانت تسيطر على الممر الشمالي، فقد وجدت نفسها في مأزق بعد أن أدت العقوبات الغربية إلى تراجع حاد في حركة الشحن عبره بنسبة 40% في عام 2023 وحده، لتعتبر اليوم صعود الممر الأوسط تهديدًا مباشرًا لمكانتها.  


 


وفي هذا المشهد المتوتر، يبحث الاتحاد الأوروبي عن طريقه الخاص، إذ يجد نفسه في مأزق استراتيجي؛ فمن جهة، يحتاج إلى تأمين طرق إمداد بعيدة عن روسيا، ومن جهة أخرى، يخشى من الاعتماد الكامل على الصين. ورغم إطلاق مبادرة “غلوبال جيت واي” بقيمة 300 مليار يورو لمنافسة الصين، إلا أن أوروبا تدرك أن الممر الأوسط هو الأقصر والأسرع، وبدأت بالفعل في تمويل مشاريع لدعمه.


 


دول المشرق العربي في قلب المعادلة الجديدة


 


تواجه السعودية والإمارات معادلة صعبة؛ فبينما يمنحهما الممر الأوسط فرصة تاريخية للارتباط بشبكة تجارية عالمية أسرع، يضعهما المشروع الأمريكي المنافس “I.M.E.C” أمام تحدٍّ يختبر سياسة التوازن بين الشراكات الاقتصادية مع الصين، والتحالف الأمني مع واشنطن.


 


أمّا بالنسبة لمصر، فهي تعتبر الممر الأوسط تهديدا  مباشرًا لقناة السويس، حيث تشير التوقعات إلى احتمال انخفاض إيرادات القناة بنسبة 17% بحلول 2030، إذا تحول جزء كبير من حركة الشحن إلى المسار التركي.


 


ولم تعد سوريا  على هامش المعادلة، بل بدأت ملامح دورها المحوري تتبلور بوضوح، خاصة بعد توقيع اتفاق النقل البري بين أنقرة ودمشق في حزيران/ يونيو 2025؛ الأمر الذي جعل الأراضي السورية مرشحة بقوة لتكون الجسر الحيوي الذي يربط الممر الأوسط بدول الخليج، مرورًا بالعراق والأردن. كما أن استقرار سوريا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا سيحوّلها إلى نقطة ارتكاز إقليمية تربط بين تركيا والخليج. 


أما العراق، فهو بموقعه الجغرافي الاستثنائي وثرواته النفطية، يمتلك قدرة استراتيجية على لعب دور أكثر تأثيرًا في حال استثمر بجدية في تطوير البنية التحتية التي تربطه بالشبكة اللوجستية للممر الأوسط، ما يجعله أحد المفاتيح الرئيسية في إعادة تشكيل خارطة النقل والتجارة في المنطقة.


 


وعلى الرغم من أن مسار “الممر الأوسط” لا يمر مباشرة عبر الأراضي الأردنية، إلا أن موقع الأردن الجغرافي يمنحه أهمية استراتيجية في أي مشروع لربط بري بين الخليج وتركيا. فمع تصاعد الحديث عن خطوط سكك حديدية مستقبلية بين السعودية، الأردن، وسوريا، تزداد فرص عمّان لتكون محطة رئيسية نحو أوروبا. ووفقًا لتقرير معهد “FPRI”،  قد يجني الأردن استثمارات ضخمة في الموانئ والبنية التحتية إذا قرر الانخراط فعليًا في منظومة الممر، ليغدو حلقة وصل بين آسيا والخليج وأوروبا.


 


 


في النهاية، ما نراه اليوم ليس مجرد منافسة اقتصادية؛ بل حرب ممرات مكتملة الأركان.


 


الولايات المتحدة تدفع بمبادرة “I.M.E.C” للدفاع عن نفوذها، وروسيا تقاتل من أجل إنقاذ الممر الشمالي، بينما تبحث أوروبا عن مخرج في قلب العاصفة.


 


و في وسط هذا التحول العميق، يقف العالم العربي في موقع محوري. الخليج أمام فرصة تاريخية ليصبح حلقة وصل حيوية بين آسيا وأوروبا، لكنه يواجه اختبارًا صعبًا بين الضغوط الأمريكية والإغراءات الصينية. مصر، من جهتها، تخشى على مكانة قناة السويس، لكنها تعلم أن تجاهل “الممر الأوسط” قد يُضعف دورها الاستراتيجي. أما سوريا والعراق والأردن، فقد تجد أنفسها فجأة في قلب شبكة لوجستية عملاقة تعيد تشكيل أدوارها الإقليمية.


 


لكنّ الحقيقة الأعمق أنّ ما يحدث اليوم يتجاوز التجارة والبنى التحتية؛ إنه صراع على النفوذ والسيادة، سباق على من يملك مفاتيح المستقبل؛ فمن يملك الطرق، يملك القرار. 


 


وإذا نجح الدمج الكامل بين “الممر الأوسط” و”مبادرة الحزام والطريق”، فإن العالم سيدخل مرحلة جديدة تمامًا، تقف فيها أنقرة وبكين في قلب المشهد، فيما تتراجع قوى لطالما تصدّرت النظام الدولي.


 


إن القرارات التي ستتخذها هذه الدول في السنوات 


القادمة ستحدد مصيرها في خريطة النفوذ الجديدة. فهل سيكون العرب جزءاً من الطريق، أم سيكتفون بمشاهدة القافلة وهي تمر من أمامهم؟ 


 


الزمن وحده سيجيب، لكن المؤكد أن طريق الحرير الصيني–التركي لن يمر مرور الكرام، بل سيكون بداية فصل جديد في تاريخ الصراع على خريطة عالم متغيّر…



الكاتبة: الدكتورة إيمان درنيقة الكمالي 


أستاذة جامعية.. كاتبة وباحثة.



Related Posts

  1. المرتضى: طرابلس ما زالت إلى اليوم تحتفظ بأصالة القيم
  2. بالصور: المؤتمر الشعبي أحيا الذكرى السنوية الأولى لرحيل مؤسسه كمال شاتيلا في طرابلس
  3. جمعية الإسعاف اللبنانية تستقبل المعزّين بشهداء الواجب الإنساني






The post الممرّ الأوسط يهزّ خريطة العالم !… بقلم: د. إيمان درنيقة الكمالي appeared first on .




موقع سفير الشمال الإلكتروني



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBAANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top