انتهت زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، كسابقاتها، رغم اختلاف ظروفها، اذ اتت في لحظة مفصلية من عمر الأزمة اللبنانية الممتدة، وسط تعقيدات داخلية متفاقمة وانكشاف إقليمي متسارع يهدد بتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، لا سيما بعد تطورات غزة، وامتداد التوتر إلى الداخل القطري، وسط حديث عن دور تركي متصاعد على الساحة اللبنانية، عززه الهمس عن دور لانقرة في انجاز صفقة اطلاق الباحثة الاسرائيلية – الروسية في العراق، ما يُضفي على هذه الزيارة أبعادًا استراتيجية تتجاوز الطابع الديبلوماسي التقليدي، وتجعل منها محطة اختبار جدية لمستقبل الدور الفرنسي في لبنان، وموقع باريس ضمن هندسة التوازنات الإقليمية والدولية في المشرق.
ففرنسا، التي لطالما اعتبرت نفسها «الراعي التاريخي» للبنان و»امه الحنون»، تجد نفسها اليوم أمام مأزق مزدوج: فهي، من جهة، تفتقر إلى أدوات ضغط فعالة لتغيير سلوك اسرائيل تجاه لبنان، دعما للعهد، ومن جهة أخرى، تواجه تراجعًا في قدرتها على التأثير، بعد فقدان المبادرة السياسية لمصلحة واشنطن والرياض وحتى طهران، في ظل شلل اللجنة الخماسية. في هذا السياق، حاولت باريس من خلال زيارة لودريان إعادة تموضعها كلاعب محوري يعيد تحريك المشهد الداخلي، ولكن ضمن سقف متدن من التوقعات الواقعية.
رسائل لودريان
وعليه، فان الزيارة الأخيرة حملت رسائل مباشرة وغير مباشرة في أكثر من اتجاه، عاكسة اولا، رغبة باريس في تخفيف الضغط عن العهد، الذي تعتبر نفسها اساسا في التسوية التي اوصلته، وثانيا، في تأمين الدعم الاقتصادي والمالي والعسكري، لاخراج السلطة من المراوحة التي تعاني منها، حيث يتزايد القلق من تحوّل لبنان إلى ساحة مواجهة مفتوحة، سواء في الجنوب، رغم نجاحها في تمرير التمديد «لليونيفيل»، أو على «خطوط التماس» الداخلية.
يضاف الى ما تقدم أنّها جاءت بعد أيام من تسليم الجيش اللبناني خطة لحصر السلاح بيد الدولة، وتفاعلاتها مع مواقف الثنائي الشيعي، وهو ما يضع فرنسا أمام معادلة حساسة: كيف توازن بين دعم مؤسسات الدولة وبين التعامل مع أمر واقع يفرضه انفتاحها على حارة حريك؟
من هنا، تتبلور أهمية هذه الزيارة كخطوة استكشافية لتقييم قابلية القوى السياسية لتجميد التدهور مؤقتًا بانتظار تطورات إقليمية قد تفرض حلولاً من خارج السياق اللبناني.
نتائج الزيارة
مصدر ديبلوماسي مطلع على اجواء اللقاءات، اكد ان زيارة لودريان حملت نتائج محدودة، رغم دلالاتها في سياق الأزمة اللبنانية المستمر، متوقفا عند النقاط الآتية:
– التاكيد على ضرورة إطلاق حوار لبناني شامل وبنّاء، مشددًا على أن الحل يجب أن ينبع من الداخل اللبناني، مع استعداد فرنسا لتسهيل هذا الحوار، وهو ما يصطدم عمليا بموقف رئيس الحكومة المتشدد لجهة اصراره على ان لا حوار حول حصر السلاح بعد قرارات الحكومة الاخيرة.
– حث المسؤولين اللبنانيين على الإسراع في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والإدارية الضرورية، مشيرًا إلى أن الوقت ليس في مصلحة لبنان، في ظل تضييع الفرص والوقت، دون انجاز الخطوات الجدية المطلوبة، كمدخل اساسي لاي مساعدات او دعم.
– شددت في مسألتي سلاح حزب الله والمخيمات الفلسطينية، بالإضافة إلى تنفيذ القرار الأممي 1701، على أهمية معالجة هذه الملفات لضمان استقرار لبنان.
– أظهرت الاهتمام الفرنسي بإعادة إعمار لبنان، حيث تعمل باريس على تنظيم مؤتمرين دوليين لدعم لبنان، الاول، اقتصادي، شرط التزام السلطات اللبنانية بالإصلاحات المطلوبة، والثاني، «عسكري»، بهدف تامين الدعم للجيش اللبناني، وفي هذا الصدد تشير المعطيات الى ان القدرات الفرنسية على تامين المساعدات وحيدة تبقى محدودة، مقارنة بالجانب الاميركي، وبالتالي فان باريس تطمح الى قيام صندوق دولي قادر على تامين مبلغ مليار دولار سنويا لدعم المؤسسات الامنية، وفقا لرؤية رئيس الجمهورية، وهو الامر غير المتوافر حاليا.
الا ان الموفد الفرنسي، ووفقا للمصدر، كان صريحا لجهة تاكيده ان أي ضمانات حول انعقاد المؤتمرين وما يمكن تحصيله من اموال، غير متوافرة، خصوصا ان باريس لم تتلق أي اشارات من واشنطن، في هذا الاتجاه حتى الساعة، مشيرا الى ان بلاده لن تعيد التجارب السابقة حيث عقد اكثر من مؤتمر، وتم جمع مئات الملايين التي بقيت في اطار الوعود، نتيجة الضغوط والمواقف الاميركية، التي ما زالت هي ذاتها حتى اللحظة.
زيارة الرياض
زيارة لودريان «البيروتية»، ببعديها الامني والاقتصادي، كان استبقها بمحطة له في الرياض، حيث اجرى مشاورات مع الموفد الملكي الى لبنان الامير يزيد بن فرحان، تناولت الملف اللبناني، من مختلف جوانبه، حيث اشارت اوساط مطلعة الى ان مباحثاته في السعودية، التي لمس خلالها «وجود اجواء ايجابية لم ترق بعد الى مستوى تغيير الموقف السعودي المبدئي من السلطة اللبنانية»، تناولت ايضا محاولة جديدة لاحياء لجنة «خماسية باريس»، الا انه اصطدم بعدم حماسة الرياض للطرح، كما انه عرض على الامير يزيد مرافقته في الزيارة الا ان الاخير اعتذر، واعدا بزيارة لبنان عندما تسمح الفرصة.
وفي هذا الاطار تكشف مصادر في العاصمة الاميركية ان التواصل الاميركي- السعودي المباشر حول لبنان، متوقف منذ مدة، في ظل التركيز الاميركي على الملف السوري، وان اي لقاءات لم تحصل بين الجانبين السعودي والاميركي، منذ قرابة اكثر من شهر.
اين اختفى براك؟
وسط هذه «العجقة الديبلوماسية»، توقف المراقبون باهتمام عند الغياب الكامل للموفد الاميركي توم براك عن المشهد اللبناني، مع ظهوره برفقة قائد القيادة الوسطى في دمشق، منذ اكثر من اسبوعين، اذ ما زاد من علامات الاستفهام، امتناعه عن اطلاق اي مواقف سواء في الاعلام، او عبر تغريده على صفحته على منصة «اكس»، معلقا ومرحبا، على ما درجت عادته خلال الفترة الاخيرة، عند كل حدث لبناني او قرار.
اوساط لبنانية واسعة الاطلاع في واشنطن، نقلت عن مصادر في وزارة الخارجية، ان السفير توم براك عازم على تقديم استقالته من الادارة، في ظل الاحباط الكبير الذي يعاني منه، مع اصطدام «مبادرته» في المنطقة بجدار صلب من التعقيدات، ومع وقوعه في اكثر من فخ نصب له «لبنانيا»، في ظل حملة يتعرض لها من فريق كبير داخل الادارة يحمله مسؤولية تراجع المشروع الاميركي في لبنان نتيجة ادارته السيئة للملف، والتي بدت واضحة النتائج.
وتتابع الاوساط بالقول ان هذا الانقسام الاميركي، حول الملف اللبناني، عكسته زيارتا الموفدة مورغان اورتاغوس وقائد القيادة الوسطى الاميركية الادميرال براد كوبر، واصرارهما على عدم لقاء اي مسؤول سياسي، حتى بعد تسليم الجيش لخطته.
علما ان عددا من الشخصيات اللبنانية قد حاول التواصل مع براك للوقوف على رايه حول الموقف الاميركي من قرار الحكومة في الخامس من ايلول، في ظل التسريبات الرسمية اللبنانية التي تناقضها الوقائع، ووسط معلومات تقاطعت عليها اكثر من جهة عن دور مستجد للوسيط الاميركي السابق آموس هوكشتاين، عبر ضخ كم كبير من المعلومات غير الدقيقة حول مواقف واشنطن، عبر «اصدقاء» له، الا انهم لم يوفقوا في التواصل معه.
حصر سلاح
ووسط ترقب لكيفية تطور الاوضاع في غزة والخطوات التي ستتخذها القمة العربية الاسلامية الطارئة الاحد والاثنين المقبلين، يمضي البحث في الملفات اللبنانية الساخنة، وفي مقدمها حصر السلاح. في هذا السياق وبعد اسابيع على بدء الجيش بتسلم سلاح فصائل منظمة التحرير وعلى راسها حركة فتح، من عدد من المخيمات الفلسطينية في بيروت والجنوب، علم ان الساعات المقبلة ستشهد تنفيذ المرحلة الثالثة من العملية التي تشمل مخيم البداوي، قرب طرابلس، والذي كان وتسلمت قبل اكثر من سنة مخابرات الجيش مئات صواريخ الغراد من داخله، وعين الحلوة، قرب صيدا، على ان تنجز العملية مساء الاثنين.
وفي هذا الاطار علم ان الاتصالات الداخلية والخارجية، حيث تؤدي الدوحة دورا اساسيا فيها، مستمرة مع حركة حماس وباقي الفصائل، لانجاز تفكيك «المنظومات العسكرية» في المخيمات الواقعة في قطاع جنوب الليطاني، عملا بالمرحلة الاولى من خطة الجيش لحصر السلاح، والتي تنتهي في غضون ثلاثة اشهر.
رغم ان معلومات افادت عن تراجع وتيرة تلك الاتصالات، بعد الغارة الاسرائيلية على قطر، نتيجة الاجراءات الامنية التي اتخذتها قيادات حماس في بيروت، وفي ظل قرار الدوحة تجميد كل المبادرات التي تقوم بها، في ظل الظروف الامنية الجديدة التي خلفتها ضربة الدوحة.
اتصالات لبنانية – سورية
غبار تسليم السلاح، لم يحجب مشهد العودة الطوعية للنازحين السوريين، مع مغادرة دفعة جديدة منهم، رغم ما يكشفه شهود عيان عن دخول المئات من الشباب السوري ليلا، عبر الحدود الشمالية بطريقة غير شرعية، اذ سجل تواصل بين وزيري الخارجية اللبناني جو رجي ونظيره السوري اسعد الشيباني، بعيد اللغط الذي اثارته زيارة الوفد السوري الى بيروت، وما سرب من مداولات اجراها مع المسؤولين الذين التقاهم، رغم تاكيد المعنيين ان الجهات الرسمية اللبنانية، ابلغت عبر قنوات خاصة قيادة حزب الله بما تم تداوله وما عرض من ملفات ومطالب.
سنة قضائية جديدة
بالانتقال الى الملف القضائي، يتوقع ان تفتتح السنة القضائية الجديدة الاثنين، في احتفال يحضره رئيس الجمهورية وعدد من كبار المسؤولين في الدولة، في قصر عدل بيروت، على ما درجت العادة سنويا، حيث تتوقع مصادر حقوقية ان تكون الانطلاقة قوية، خصوصا مع تولي القضاة الذين شملتهم التشكيلات والتعيينات الاخيرة مواقعهم الجديدة، واستلموا ملفاتهم، لا سيما تلك التي تشكل مصدر اهتمام داخلي وخارجي، رغم المخاوف من المعوقات والتدخلات السياسية المزمنة، والتي عززها رد مشروع قانون استقلالية القضاء.
وفي هذا الاطار، علم ان عدد المراجعات والشكوى ضد القضاة، من المتضررين، امام التفتيش القضائي قد ارتفع بشكل ملحوظ، حيث تراوحت بين استغلال نفوذ والخضوع لتدخلات، كذلك ثمة ملاحقات تتعلق بالاثراء غير المشروع وقبض رُشى، علما ان اي قرارات علنية لم تصدر حتى الساعة.
وفي السياق في ما خص ملف التحقيق في انفجار مرفا بيروت، قررت الهيئة العامة لمحكمة التمييز عقد جلسات اسبوعية، كل يوم اثنين، للنظر في دعاوى المخاصمة وطلبات الرد، ضد المحقق العدلي في انفجار مرفا بيروت، القاضي طارق البيطار، على ان تصدر قراراتها تباعا.
صندوق النقد
على الصعيد الاقتصادي يتوقع ان يصل فريق من صندوق النقد الدولي الى بيروت، لمواصلة المحادثات بين الطرفين، والوقوف على ما وصلت اليه الورشة التشريعية على صعيد الاصلاحات التشريعية المالية المطلوبة دوليا، كمدخل اساسي لاقرار الاتفاق بين الطرفين، رغم استبعاد المعنيين انجازه خلال ما تبقى من اشهر السنة الحالية.
وفيما تتوقع مصادر مالية ان تحوز موازنة 2026 «رضى» صندوق النقد، في ظل «تصفير العجز» فيها، نتيجة زيادة الرسوم والضرائب، تتخوف مصادر نيابية من ان تحمل معها الاشهر القليلة المقبلة انفجارا اجتماعيا واقتصاديا، مع تكاثر الملفات الاقتصادية والمعيشية العالقة، مع اصرار الدولة على ربط اي زيادات بزيادة المداخيل من اموال الطبقة العاملة، وفي ظل ازمة اجتماعية بدات تطل براسها مع بدء تطبيق قانون الايجارات الجديد، والذي على سبيل المثال يهدد اكثر من 300 مدرسة بالاقفال، ويضع الاف الطلاب في الشارع.
تعقيد الجهود
في مجال آخر، أشار مصرف لبنان إلى أنّ ارتفاع أسعار الفائدة العالمية يُعقّد جهود إعادة هيكلة ديون السندات الدولية. وأعلن أنّ إحتياطيات لبنان من النقد الأجنبيّ ارتفعت إلى 11.3 مليار دولار حتى منتصف 2025. وأضاف أنّ قيمة احتياطيات لبنان من الذهب ارتفعت إلى 30.28 مليار دولار حتى منتصف 2025 بفضل ارتفاع أسعار الذهب.