تقدم مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية للباحثين اللبنانيين مجموعة من أهم الوثائق التاريخية للبنان الوسيط والحديث والمعاصر، وهي وثائق أوقاف البطريركية المارونية للفترة الزمنية الممتدة من سنة 1239 إلى سنة 1940، التي عكف عليها لسنوات الدكتور المؤرخ الأباتي أنطوان ضو، والذي وافته المنية في 19 نيسان من العام الحالي، رحمه الله، بعد أن أتم جمع الوثائق من خزائن بكركي، ونظمها، وعلق عليها، وجهزها للطبع؛ لكن المرض الذي عاجله لم يمهله حتى يراها موسوعة في ثلاثة مجلدات، مكونة من 1400 صفحة.
هذه المجموعة من الوثائق هي عبارة عن تاريخ يومي اجتماعي لمناطق متعددة من لبنان، حيث كانت توجد أوقاف للرهبنة المارونية، سجلت بكل بساطة وأمانة الحركة اليومية للناس: بيع وشراء أراضٍ للرهبنة وللرهبان، مصالحات بين الرهبان أنفسهم، أملاك أوقفها أهل الخير وبخاصة لدير قنوبين، هذا عدا عن أسماء كثيرة لعائلات مارونية تواجدت خلال تلك الفترة.
ولم تقتصر الوثائق على ما له علاقة بالرهبنة المارونية، بل وردت وثاثق تثبت عمليات بيع بين عائلات مارونية ، من مثل الحجة رقم 278، ج1 / ص 333/ وفيها “باع يوسف الخازن لمخائيل كاورك نصف الذراع الباقية له من الأرض في مدينة طبرجا بمبلغ خمسة وخمسين قرشا” ويعود تاريخ هذه الوثيقة إلى 21 تشرين الأول لسنة 1839م، ما يعطينا فكرة عن الوضع الاقتصادي في تلك الفترة والقيمة الشرائية للعملة المتداولة ونوعها.
كما تثبت عمليات بيع وشراء أراضٍ بين الرهبان وبين مواطنين مسلمين كما في حُجَّة رقم 729 لسنة 1901م (3 / 1128) حيث اشترى المطران يوسف نجم ، “النايب” البطريركي، من حسن ويونس، أولاد حسين بلوط، عقارات بخراج مزرعة سبرين.
كما شملت الوثائق بيان ما أوقفه أهل اليسار من الطائفة المارونية على فقرائها، من مثل حجة رقم 458، سنة 1859، ج2 / ص 628/ ففيها أن “ريشا بن طنوس الشمالي وزوجته” أوقفا “لفقرأ الطايفة المارونية عقارات في خراج جعيتا وسهيلة”، وهكذا.
ومما يلاحظ في السياق التاريخي التطور الذي حصل في تدوين الحجج الوقفية وعقود البيع والشراء، ففي القرن الثالث عشر والرابع عشر كانت تسجل في الأديرة والبطريركية، ويشهد عليها خوري واحد أو راهب.
بينما في القرن التاسع عشر والقرن العشرين باتت الحجج تسجل في المحاكم بحسب المناطق التي تتم فيها العقود أو الأوقاف، وأضحت الصكوك اكثر تحديدا ووضوحا، وعليها توقيعات الكاتب وشهود الحال الموظفين في المحكمة، ومنهم مسلمون ومنهم مسيحيون، كما في الحجة رقم 687 لسنة 1892 (3 / 1034 – 1035) فنجد اسم الكاتب وشهود الحال، وغالبهم من المسلمين. وهذا يعطينا فكرة عن تطور الدوائر العقارية وتسجيلات صكوك البيع والشراء والمؤسسات الوقف.
ويتخطى مفهوم الوقف عند الأباتي ضو فعل العطاء والمحبة والإنسانية ليكون جسر وصل بين المكونات المختلفة في لبنان ، فيقول في مقدمته: “الوقف كلمة معروفة ومحبوبة في الأدب القانوني العربي الإسلامي المسيحي. للعلماء والفقهاء والقانونيين رأيهم وتفسيراتهم واجتهاداتهم حول مفهوم الوقف. أمّا نحن فقد فضّلنا كلمة وقف على كلمة أملاك ، وسمينا هذا الكتاب أوقاف البطريركية المارونية. فإلى محبة المشتركات الحضارية المسيحية الإسلامية، فإن الأنوار اللاهوتية تعتبر أن الوقف مقدس، والملكية مقدسة، والملك لله، وهو في خدمة شعب الله”.
ويقول الراحل الأباتي ضو عن هذه المجموعة: “هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يتضمّن ۸۸۳ حجة تخص البطريركية المارونية، في أماكن عدّة. يبدأ تاريخها من سنة ١٢٣٩ وينتهي بسنة ١٩٤٠. جمعنا هذه الحجج من إنجيل ربّولا، أولاً، ومن سجل أملاك البطريركية، المحفوظ في مكتبة بكركي تاليا وقمنا بتحقيقها ونشرها، وصدرنا كلّ حجّة بتاريخها ورقمها وتلخيص مقتضب لها بغية تسهيل القراءة على المطالع. كما سيجد الكثيرون من القراء في موسوعة أوقاف البطريركية المارونية، أسماءً لآبائهم وأجدادهم وأبناء بلداتهم ومدنهم، وعلاقتهم ببطريركيتهم وبطاركتهم القديسين”.
وقد قدم لهذه المجموعة نيافة الكاردينال، غبطة البطريرك، مار بشارة بطرس الراعي، ومما قاله نيافته: “بادر الأباتي أنطوان ضو الأنطوني قبل عدة سنوات، مشكوراً، إلى جمع وتحقيق وثائق وحجج أوقاف البطريركية المارونية. وقد أنجز المرحلة الإعدادية من هذا العمل التي تتوزع بين جمع الوثائق وفهرستها وتعريب المخطوط منها باللغة السريانية وتبويبها بتسلسلها الرقمي والتاريخي. وقد بلغت ۸۸۳ وثيقة أو حُجَّة متعلقة بهذه الأوقاف، تضيء على كيفية شرائها من قبل البطاركة المتعاقبين، وعلى الأشخاص الذين باعوها للبطريركية أو الذين وقفوها لها لغايات محددة تتصل جميعها برسالة الخدمة التي تضطلع بها البطريركية المارونية”.
وأرفق الأباتي ضو كل وثيقة بشرح مفصل لمضمونها وللظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية المتصلة بها.
وتتوزع هذه الوثائق – الحجج وملحقاتها على ثلاثة مجلدات تقع في ألف وخمسمئة صفحة.
لقد تزامن إنجازُ المرحلة الإعدادية الأولى مع تقاعُد الأباتي ضو، فقامت سلطة الرهبانية الأنطونية المارونية بحفظ هذا العمل التاريخي التوثيقي القيم، وتابعته رابطة قنوبين للرسالة والتراث لتتولى تحقيق المرحلة الثانية التنفيذية والعمل على إصداره، تعميماً لفوائده المتصلة بجوهر اللاهوت الماروني، عن منشورات مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، إنفاذاً لأحكام ميثاق الشراكة والتعاون المبرم بين الرابطة والمؤسسة بتاريخ 22 ايلول 2024.
إن هذا اللاهوت كان حين قامت هذه الأوقاف والملكيات، ولما يزل، لاهوت المحبة وعيش المحبة وتفضيل الفقراء بالمحبة.