مع تجدّد العنف الطائفي في السويداء كانت سورية تحتاج إلى أن يصدر تقرير التحقيق في مجازر الساحل ليشكل نقطة بداية جدية قوية، تعلن عبرها مؤسسات السلطة الجديدة في نظام دمشق عزمها على مواجهة خطر العنف الطائفي الذي تشكل مؤسسات السلطة بيئة حاضنة لها، ما يستدعي حزماً في معاقبة من ارتكبوا الجرائم ومن حرّض على ارتكابها ومن نظّم حملة تعبئة طائفية لغزو الساحل السوري تماماً كما حدث مرة أخرى في السويداء، ومع تدفق التسجيلات الوافدة عما جرى في السويداء والإعدامات العلنية لمدنيين عزل على أيدي عناصر المؤسسات الأمنية والعسكرية، لم يعُد أحد مستعداً لسماع نظرية أن الفزعة العشائرية هي التي تسببت بالانتهاكات، وقد جاء التقرير نسخة استباقية عن تقرير مشابه يتوقع صدوره حول أحداث السويداء يقول إن هناك مشروع دولة انفصالية برعاية إسرائيلية يتحمّل مسؤولية قتل رجال الأمن، والتسبّب بفزعة عشائرية رافقتها الانتهاكات، كما ورد في تقرير مجازر الساحل، الذي اعترف بحصيلة أكثر من 1400 ضحيّة، معتبراً أن القضية تعود إلى عدم توضيح شروط اللباس العسكري؟
في لبنان كان المبعوث الأميركي توماس براك ينهي مهمته بلقاء رئيس مجلس النواب نبيه برّي، متحدثاً عن تفاؤل بالتقدم، موحياً أن البحث لم يعُد وفق المعايير التي رافقت زيارتيه السابقتين بتسويقه لمعادلة ها هي سورية فالتحقوا بمسارها، قبل أن تتولى ضمّ لبنان، وقد أحبطت خطابه الأحداث الأخيرة في سورية، سواء انفجار جولة جديدة من العنف الطائفي، أو ما مثلته الضربات الإسرائيلية للعاصمة دمشق ومقار الرئاسة ووزارة الدفاع فيها، من إضعاف معادلة شراء الأمن بالتنازل عن السلاح، وهي معادلة ظهر فشلها الذريع في سورية، وبينما تبنى براك المنطق اللبنانيّ القائم على اعتبار المنطلق في البحث يجب أن يبقى تحت سقف اتفاق وقف إطلاق النار وكيفية إنعاشه، برز السؤال عما إذا كانت «إسرائيل» قد نضجت لقبول وقف الاعتداءات تمهيداً لقبول سياسة الخطوة مقابل خطوة، في علاقة الانسحابات ووقف الانتهاكات بالسلاح، خصوصاً بعدما قالت القناة الثانية عشرة إن المهمة قاربت على الإنجاز في لبنان والقول إن حزب الله لم يعد لديه إلا جيوب محدودة؟
في الوقت الذي تتسارع فيه التطورات الإقليمية وتتعمّق التحديات الأمنية والسياسية في لبنان والمنطقة، تتواصل الجهود الدبلوماسية المكثفة على أكثر من محور، دون أن تلوح في الأفق بوادر حل جذريّ. لم تخرج زيارة المبعوث الأميركي توم براك إلى بيروت عن إطار الرسائل التحذيرية، إذ لم تسفر، بحسب مصادر سياسية لـ»البناء» عن أي اختراق يذكر في ملف الضمانات التي يطلبها لبنان، ولا في ملف وقف إطلاق النار الهشّ مع «إسرائيل». وبدا أن زيارة براك كرّست الانطباع السائد بأن واشنطن ما زالت ترفض تقديم أي التزام مباشر، فيما لبنان يقترب أكثر من مرحلة مواجهة جديدة تتجاوز الخطوط الحمراء السابقة.
وتقول مصادر سياسية لـ»البناء» إن لبنان يقف اليوم على مفترق طرق، وسط شبكة من الضغوط والفرص المحدودة. وبين حراك دبلوماسي يفتقر إلى الضمانات، وأزمة داخلية تتطلب شجاعة في الإصلاح، يبدو أن البلاد بحاجة ماسة إلى قرار سياسي وطني يعيد ترتيب الأولويات، ويمنع الانزلاق إلى صدام جديد تُرسم ملامحه على أكثر من جبهة. وتشير إلى أن زيارة المبعوث الأميركي خرجت بالنتيجة نفسها التي انتهت إليها زيارته السابقة، إذ طلب لبنان من الأميركيين انسحاب «إسرائيل» ووقف انتهاكاتها، في حين رفضت «إسرائيل» تقديم أي تنازل. وأشارت مصادر مطلعة إلى أنّ براك لم يسمع أي جديد من لبنان أو تبدّل في المواقف الرسمية.
في اليوم الثاني من جولته على القيادات اللبنانيّة، وخلال لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة، شدّد براك على أهمية «التحلي بالأمل» للوصول إلى الاستقرار، مؤكداً أن المشكلة «ليست في الضمانات»، وأن بلاده تواصل جهودها لتحقيق تقدّم في ظل ضيق الوقت. ولفت إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب حريص على مساعدة لبنان في هذه المرحلة، مشيراً إلى صعوبة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان و»إسرائيل»، ومؤكداً أن قرار حصر السلاح شأن لبناني داخلي وليس من مسؤولية واشنطن.
وأشار الموفد الأميركي في إطلالة تلفزيونية إلى أنّ «الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد أن يساعد لبنان في هذه الأوقات العصيبة»، لافتًا إلى وجود «اتفاق لوقف إطلاق النار بين لبنان و»إسرائيل»، إلا أن الجانبين يجدان صعوبة في تطبيقه. نحن هنا للمساعدة في إحلال السلام، لكن هناك جدولًا زمنيًا، والوقت يداهمنا، لذا نضغط للتوصل إلى توافق».
وأضاف: «أنا لا أطلب حصر السلاح، بل ثمّة قانون يقول إنّ هناك مؤسسة عسكرية واحدة، وعلى لبنان أن يقرّر كيف سيطبّق هذا القانون. يجب نزع الأسلحة الخفيفة والثقيلة»، معتبرًا أنّ «الحكومة اللبنانيّة هي التي يجب أن تقرر كيفية حصر السلاح، فهذه ليست من مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية».
وعن موقفه من عدم إعطاء ضمانات باحترام «إسرائيل» لوقف إطلاق النار، قال: «أنا لستُ مفاوضًا، ودوري هو وسيط سياسي للتأثير الإيجابي بين الأطراف. الوقت يداهمنا في ظل ما يحصل في المنطقة، لذا يجب إرساء الاستقرار».
في المقابل، تتحرك باريس على خط موازٍ عبر استقبال رئيس الحكومة نواف سلام، في زيارة تحمل طابعاً رمزياً وسياسياً في آن، وتؤكد استمرار الدعم الفرنسي للبنان في مسار الإصلاح والاستقرار وسط ضغط دولي متصاعد لحسم قانونَي إعادة هيكلة المصارف والفجوة المالية. ويستقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة نواف سلام يوم غد، في أول زيارة رسمية له إلى فرنسا منذ توليه رئاسة الحكومة. وأوضح بيان الإليزيه أن الزيارة «ستشكّل فرصة لتأكيد عمق الصداقة الفرنسية ـ اللبنانية، ولتشديد دعم فرنسا المستمر للبنان». وأضاف البيان أن المحادثات ستركّز على أمن لبنان واستقراره، وعلى «السعي إلى الإصلاحات الاقتصادية الضرورية لاستعادة سيادته وازدهاره بالكامل».
وأشار البيان إلى أن ماكرون وسلام سيناقشان «أهمية الالتزام الكامل بوقف إطلاق النار، ولا سيّما ما يتصل بالانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية»، كما سيتطرقان إلى «تعزيز القوات المسلحة اللبنانية، والتعاون مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، التي تساهم فرنسا فيها بنشاط، إضافة إلى الأولويات الإقليمية المشتركة». كما سيتناول الجانبان «التحديات الرئيسية التي تواجه الشرق الأدنى والأوسط، لا سيّما تداعيات الحروب في إيران وغزة، والاشتباكات الأخيرة في سورية».
وختم البيان بالتأكيد على أنّ ماكرون وسلام «سيشدّدان على ضرورة وقف الأعمال العدائية بالكامل في المنطقة حمايةً للمدنيين، وعلى الأهمية القصوى لإيصال المساعدات الإنسانية على نطاق واسع ومن دون عوائق إلى قطاع غزة».
وفي السياق نفسه، استقبل رئيس الحكومة في السرايا المستشار الاقتصادي للمبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إلى لبنان، جاك دو لا جوجي، بحضور السفير الفرنسي في لبنان هيرفيه ماغرو. وجرى خلال اللقاء بحث مستجدات قانون إعادة هيكلة المصارف والتعديلات المطروحة عليه في مجلس النواب، إضافة إلى مناقشة الجدول الزمني المتوقع لإقراره. كما تطرّق الاجتماع إلى التقدم المحرز في إعداد قانون الفجوة المالية، في إطار السعي إلى إرساء أسس التعافي المالي والاقتصادي في لبنان.
وعقد رئيس الحكومة اجتماعًا عصراً حضره وزير المال ياسين جابر وحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، جرى خلاله البحث في الأوضاع المالية والاقتصادية.
كما استقبل سلام في السرايا مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، بحضور عدد من المفتين، حيث جرى عرض للتطورات في لبنان وأوضاع المناطق وشؤونها. كذلك، زار رئيس الحكومة الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وتم خلال اللقاء التباحث في آخر المستجدات السياسية في لبنان والمنطقة.
في موازاة ذلك، بدأ رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون زيارة رسمية إلى البحرين تستمرّ يومين، تلبية لدعوة من الملك حمد بن عيسى آل خليفة. ومن المقرّر أن يبحث عون مع العاهل البحريني وكبار المسؤولين في المملكة سبل تعزيز العلاقات الثنائيّة وتطويرها على مختلف الأصعدة. وأشاد الرئيس عون بالدور الإيجابي الذي تضطلع به مملكة البحرين في تعزيز الاستقرار والتنمية في العالم العربي، مؤكّدًا أنّ زيارته الرسميّة إلى المنامة «تحمل رمزية تؤكد عمق العلاقات الأخوية والتاريخية بين لبنان والبحرين».
وأوضح أنّ الزيارة تشكّل فرصة لتوسيع آفاق التعاون المشترك في القطاعات السياسية والاقتصادية والثقافية، معربًا عن تطلّعه إلى «لقاءات بنّاءة مع القيادة البحرينيّة لبحث الملفات الثنائيّة وتبادل وجهات النظر حول المستجدات الإقليمية والدولية». وأكد أن لبنان يعتز بعلاقاته المتينة مع البحرين، ويقدّر مواقفها الثابتة والداعمة له على الصعيدين العربي والدولي. واعتبر أن الزيارة تمثل انطلاقة نحو «شراكة استراتيجية جديدة، لا سيّما في مجالات الاستثمار والسياحة والاقتصاد»، مشددًا على «الحرص على التعاون بما فيه مصلحة الشعبين الشقيقين، في ظل التحديات الدقيقة التي تواجه المنطقة». وختم بشكر الملك حمد بن عيسى آل خليفة والشعب البحريني على حفاوة الاستقبال، متمنيًا أن تكون الزيارة «ناجحة ومثمرة وتعكس متانة الروابط العربية».
وفي سياق متصل، يستمر التنسيق مع الأمم المتحدة حول مستقبل اليونيفيل ومآلات الأوضاع على الحدود، في ضوء التحديات الأمنية المتصاعدة على الحدود الجنوبية والشرقية. واجتمعت لجنة الشؤون الخارجية والمغتربين مع المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، جنين بلاسخارت. وأوضح رئيس اللجنة النائب فادي علامة أنّ «الهدف كان استيضاح بعض النقاط الأساسية في ظل الظروف الراهنة، ومن بينها موضوع جنوب لبنان ودور اليونيفيل، إضافة إلى أسئلة حول التجديد لهذه القوات». ولفت علامة إلى أنّ «الدولة اللبنانية قدّمت سابقًا طلبًا لتجديد مهمة «اليونيفيل»، ونأمل أن يكون التقديم قد تم في الوقت المناسب، بما يتيح للبنان الاستفادة من فرصة طرح هذا الملف مبكرًا». كما أشار إلى أنّ «النقطة الثانية التي طُرحت كانت ما يحصل على الحدود الشرقية والشمالية، والتطورات في سورية وتأثيرها المحتمل على لبنان، إضافة إلى ملف النازحين السوريين، وكيف يمكن للأمم المتحدة أن تساعد في هذا السياق».