سيطول الوقت قبل أن ينقشع غبار حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران، الحاجب لصورة المنطقة ووجهتها في المرحلة المقبلة. في ظل التعتيم المفروض من الجانبين الإسرائيلي والإيراني على حجم المكاسب التي حققها كل منهما، كما على حجم الخسائر والآثار التدميرية التي ألحقتها الحرب بهما. والطرفان كما يبدو بعد التزامهما باتفاق وقف إطلاق النار، انتقلا من ميدان الحرب العسكرية إلى ميدان السباق على كيّ وعي جمهور العدوين اللدودين ومراسلة الدول الصديقة والحليفة والمعادية، بادّعاء إسرائيل من جهة، انتصارها على إيران بإنهاك قدراتها وتدمير برنامجها النووي، وادّعاء إيران في المقابل، انتصارها على إسرائيل، بإفشال مخططها لإسقاط إيران وتغيير نظامها، وكسر مشروعها بالهيمنة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط.
معادلة جديدة
وإذا كان الحديث عن انتصار متوقعاً من قبل الجانبين، إلّا أنّه في الوقت نفسه، لا يحاكي الواقع كما هو، ونتائج الحرب على حقيقتها، وهو ما تؤكّده مقاربات المحللين السياسيّين واستنتاجات الخبراء العسكريّين، الذين يجمعون على عدم وجود انتصار بمعنى انتصار، بل انّها تتقاطع جميعها عند حقيقة أنّ هذه الحرب أفرزت معادلة جديدة، تبرز قوّتين إقليميتين مستمرتين كلاعبتين أساسيتين في المنطقة، رغم خروجهما مهشّمتين من هذه الحرب، ولكن مع تحقيق كلّ منهما لـ»انتصار موضعي» سجّل كلّ منهما نقاطاً عسكرية مهمّة على الآخر، وعرفا مكامن القوة والضعف لدى كل منهما. وتبعاً لذلك فإنّ جوهر المعادلة الجديدة، هو أنّ إيران اختلفت، وانّها بعد الحرب ليست كما كانت قبل الحرب. وإسرائيل التي كنا نعرفها، لم تعد إسرائيل كما كنا نعرفها، ولهذا الواقع تأثيراته المباشرة عليهما بصورة مباشرة، وكذلك على دول الجوار والمحاور المرتبطة بكليهما.
فإيران، وفق هذه التقديرات، نجت من ضربة أرادتها إسرائيل قاضية وخاطفة في لحظاتها الأولى، والضربات الموجعة التي تلقتها وشملت تأثيراتها كلّ قطاعاتها وبرنامجها النووي الذي لم يعد كما كان عليه قبل الحرب، لم تشكّل عاملاً كاسراً لها، بل احتوتها بقدرة مواجهة وردّ صاروخي عنيف تناقلت وسائل الإعلام صوره التدميرية في الداخل الإسرائيلي، وبتحويل مسار الحرب نحو حرب تحمّل واستنزاف طويلة الأمد للعدو. فالنصر بالنسبة إلى إيران ليس بتحقيق إنجازات عسكرية لحفظ ماء الوجه، بل أن تخرج من هذه الحرب صامدة ولم تفقد بنيتها كدولة وكنظام، كما لم تفقد قلب برنامجها النووي، وهو ما حصل بالفعل. وبالتالي أمر طبيعي وبديهي جداً أن تعتبر إيران فشل الهدف الإسرائيلي من الحرب عليها، انتصاراً لها.
وأما إسرائيل، بحسب التقديرات، فإنّ حديث مستوياتها السياسية والعسكرية عن ضربات ساحقة لإيران، معطوفاً على الأجواء الاحتفالية بالضربة الأميركية للمفاعلات النووية، لا تنفي تحقيق إنجازات عسكرية نوعية على الارض، الّا انّه لا يغيّر في حقيقة أنّها لم تصل إلى النصر الذي أرادته بتدمير البرنامج النووي، وتغيير النظام في إيران. فمن بدايات الحرب اصطدمت إسرائيل بعجزها على الحسم مع إيران وبرزت حاجتها إلى المساعدة الأميركية، وهو ما تردّد باستمرار على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. كذلك اعتراف بعض وزرائه بصعوبة الحرب مع إيران، وكان أكثرهم صراحة وزير الأمن الإسرائيلي ايتامار بن غفير الذي قال: «إننا لم نقدّر ان تكون إيران على هذا القدر من القوة». ثم إنّ إسرائيل، وإنْ كانت قد وجّهت إلى ايران ضربات جوية واسعة وعنيفة جداً، انكشف داخلها وضعفت دفاعاتها، وتلقّت ضربات صاروخية إيرانية خلّفت دماراً لم تعهد مثله منذ نشوئها، ما جعلها تسارع بعد ايام قليلة من اشتعال الحرب إلى إبداء استعدادها لإنهائها ووقف إطلاق النار.
هدوء .. ومخاوف
وإذا كانت تقديرات المحللين والمعلقين تتفق على أنّ المنطقة تنفسّت الصعداء من وقف الحرب بين إسرائيل وإيران، لنجاتها من حريق لا يمكن التحكّم فيه، ويستحيل تقدير مساحة اشتعاله وحجم تداعياته ونطاق امتداداته وارتداداته. ويبرز في هذا السياق «تقدير موقف» تلقاه أحد كبار المسؤولين جاء فيه ما حرفيّته: «إنّ الحرب جاءت نتيجة طبيعية لسنوات طويلة من الإحتقانات والتوترات والإستعدادات لخوضها، وانتهت إلى ما انتهت اليه من عدم امتلاك أطرافها قدرة الحسم، فضلاً عن الآثار والخسائر التي لحقت بكلّ من إيران وإسرائيل. وتبعاً لذلك، من غير المتوقع أن تتكرّر الحرب في المدى المنظور، وخصوصاً انّ الأميركيين وكما يبدو، لم يعودوا يريدونها بعدما أدركوا انسداد أفقها، ومن هنا كانت مسارعتهم إلى فرض وقف اطلاق النار. وبالتالي، فإنّ الاكثر توقعاً وترجيحاً هو فترة طويلة من الهدوء قد تمتد لسنوات مع الحفاظ على سقفٍ عالٍ من الهجومات السياسية، وخصوصاً انّ الجانبين الإسرائيلي والإيراني بعد توقف الحرب العسكرية، أمام كل منهما حرب داخلية أقسى من الحرب العسكرية، مع الثغرات والفجوات الداخلية الأمنية والدفاعية التي تكشفت خلال الحرب، وسدّها ومعالجتها يتطلبان جهوداً كبرى ومجالات زمنية طويلة».
والحديث عن فترة هدوء طويلة، يناقضه ما يقوله خبير في الشأن الإسرائيلي رداً على سؤال لـ«الجمهورية»، بأنّه يتخوّف من أن يكون وقف الحرب موقتاً بين طرفين، وجود كلّ منهما مرتبط بإنهاء وجود الطرف الآخر، وما يعزز هذا التخوّف هو انّ من أشعل الحرب ليس مسلّماً بفشل هدفه، ويعكس ذلك ما تؤكّده المستويات السياسية والأمنية في إسرائيل، بأنّ مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار توجب العمل الدؤوب والاستعداد من جديد، ليس فقط لمنع إيران من إعادة إحياء برنامجها النووي، بل لكسرها وتخليص المنطقة والعالم من نظامها الراعي والحاضن للإرهاب».
والمقلق في رأي الخبير عينه، هو أن تبادر اسرائيل إلى تحويل أنظار الداخل الإسرائيلي المنهك من الآثار التدميرية التي سببتها صواريخ إيران، في اتجاه آخر، عبر محاولة تحقيق خطوات عسكرية تعويضية لما مُنيت به في الحرب مع ايران، وخصوصاً في غزة، حيث أنّ التقارير التي يكشفها الإعلام الإسرائيلي تكشف اقتراحات من قِبل بعض الوزراء الأكثر تطرّفاً في حكومة نتنياهو لاعتماد تدمير أكبر وأعنف في غزة وتهجير واسع للفلسطينيين يمتد من غزة إلى الضفة الغربية.
والامر نفسه، يقول الخبير، قد ينسحب على جبهة لبنان، حيث يُخشى من أن تلجأ اسرائيل الى تصعيد كبير وتوسيع نطاق اعتداءاتها واستهدافاتها، في وقت ينوء فيه لبنان تحت ثقل الملفات الداخلية المتراكمة والتي يتصدّرها الملف الخلافي المتعلق بالسلاح الفلسطيني وسلاح «حزب الله»، وكذلك تحت ثقل التهديدات الإرهابية التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة عبر تحركات رُصدت في أكثر من منطقة للخلايا الإرهابية، وأمكن للأجهزة الأمنية ان توقف افراداً خطيرين منها وشبكات كانت تخطط لعمليات إرهابية. وقال مرجع أمني لـ«الجمهورية»، انّ «الجهوزية رُفعت في الايام الأخيرة إلى أعلى درجاتها، والإجراءات التي اتُخذت أدّت إلى توقيفات لعدد من الرؤوس الكبيرة في التنظيمات الارهابية، ولاسيما من تنظيم «داعش»، ونتابع ملاحقة آخرين متوارين في بعض المناطق».
تصعيد أو انكفاء!
في المقابل، خالف مصدر رسمي رفيع الأجواء القلقة بقوله لـ«الجمهورية»: «في المبدأ، لا نستطيع ان نلغي من حسباننا أي عمل عدواني إسرائيلي، فقد تكون الحرب على ايران وما انتهت اليه عاملاً ودافعاً للتصعيد الإسرائيلي، وقد تكون في الوقت ذاته دافعاً للانكفاء في ظل ما يعانيه الداخل الإسرائيلي. وفي أي حال ثمة معطيات دولية معاكسة للجو التشاؤمي الذي تتولّى بعض الجهات والمنصات إشاعته والتخويف منه، والأبرز فيها تأكيدات أميركية متجددة بالحفاظ على الأمن والاستقرار في لبنان، ومنع حصول اية تطورات دراماتيكية انطلاقاً من ساحة الجنوب».
نصيحة غربية
في سياق متصل، كشفت معلومات موثوقة لـ«الجمهورية»، أنّ ضابطاً غربياً كبيراً نقل إلى بعض المستويات السياسية ما وصفت بنصيحة تتسمّ بالإلحاح، بأن يسرّع لبنان في الخطوات التي ترسّخ أمنه واستقراره، وتفتح أمامه أفق الانتعاش اقتصادياً ومالياً. ونُقل عنه قوله ما حرفيته: «أمام لبنان فرصة لإعادة إنعاشه، ولا نقول أنّه تأخّر في اغتنامها في ظلّ ما نسمعه من القيادات المسؤولة في لبنان، بل نشجع هذه القيادات على توفير الإجراءات الكفيلة بنهوض الدولة وتمكين العهد الجديد من قيادة لبنان نحو واقع سليم، ومن هنا فإنّ الضرورة، وكذلك مصلحة لبنان توجبان الحسم النهائي لقرار حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها، ما يعني حسم ملف سلاح «حزب الله» وسحبه بصورة عاجلة، سواء جنوبي الليطاني وخارجه». وقال «إنّ التأخّر في حسم هذا الملف، يعني إبقاء عامل القلق قائماً ومهدداً لاستقرار لبنان».
ولفت الضابط الغربي الكبير إلى «اننا نتفهم هواجس لبنان من إسرائيل، ونشاركه الدعوة إلى ضرورة احترام اسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار ومندرجات القرار 1701 والإمتناع عن خروقاتها لسيادة لبنان»، الّا انّه قال ايضاً «إنّ مصلحة لبنان تكون في ابتعاده عن التوترات، وعدم تفرّد أيّ افراد او مكونات بالانخراط في صراعات من شأنها أن ترتد بسلبيات على كل لبنان».