| د.حمزة الكناني | باحث في العلاقات الدولية والاستراتيجية
تحليل استراتيجي موسع …
مصطلح استراتيجية “التوازن القسري” (Forced Balance)
هو تعبير تحليلي حديث يُستخدم لوصف نمط من السياسات الأميركية في مناطق النزاع، لا سيما في الشرق الأوسط (غرب آسيا). ويستند هذا المفهوم إلى الفلسفة الواقعية التي طرحها هنري كيسنجر في مؤلفاته، خصوصًا كتابه Diplomacy (1994)، حيث تُدار العلاقات الدولية من خلال مزيج من الردع والضغط المتوازن، دون الانزلاق إلى حروب مباشرة أو مواجهات شاملة.
ويستخدم بعض الباحثين هذا المصطلح لتوصيف نهج واشنطن، خاصة خلال إدارة الرئيس ترامب، في السعي إلى تحقيق توازن إقليمي يضمن استمرار الهيمنة الأميركية عبر دعم الحلفاء من جهة، وفرض حدود مدروسة على الخصوم من جهة أخرى.
ويُعبَّر عن هذا المفهوم بصيغ مختلفة في الأدبيات التحليلية، بحسب السياق، منها:
Coercive Balance – التوازن القائم على الإكراه
Balancing through Deterrence and Pressure – التوازن عبر الردع والضغط
Strategic Coercive Balancing – التوازن القسري الاستراتيجي
وانطلاقًا من هذا التصور، تواصل إدارة ترامب تطبيق هذه العقيدة عمليًا في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في المنطقة.
دونالد ترامب والشرق الأوسط المشتعل: حماية إسرائيل… أم كبحها؟
وفي هذا السياق المتوتر، ومنذ أن عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية والأخيرة مطلع هذا العام، بات الشرق الأوسط يتحرك على إيقاعٍ جديد، مختلف عن سنوات التردد في عهد سلفه الديمقراطي جو بايدن إلّا أن استمرار التصعيد العنيف بين إسرائيل وإيران خلال الأيام الأخيرة، أظهر معضلة استراتيجية تُواجه واشنطن:
كيف تحمي إسرائيل دون أن تشعل حربًا إقليمية واسعة؟
رغم القدرات الدفاعية الأميركية الهائلة، وتواجد القواعد العسكرية و حاملات الطائرات والمنظومات المتطورة في شرق المتوسط، فإن عدداً ليس بالقليل من الصواريخ الإيرانية نجحت في اختراق الدفاعات الجوية ووصلت إلى أهداف داخل إسرائيل. وعليه، فإن السؤال الذي تردده النخب الأمنية والإعلامية الآن هو:
لماذا تسمح أميركا بذلك؟ ولمصلحة من تُخفّف واشنطن من تدخلها الدفاعي الكامل؟
وللإجابة عن ذلك، يمكن التوقف عند مواقف ترامب نفسه، فمنذ بداية المواجهات، أكد ترامب عبر منصته Truth Social أن:
”بوسعي إنهاء هذا الصراع الدموي بسهولة بين إيران وإسرائيل… لكن أميركا ليست طرفًا في الهجمات الإسرائيلية على إيران. وإذا تعرّضنا للهجوم، سنرد بقوة كاملة.”
هذه الرسالة ذات شقين:
1⃣أولًا، تأكيد الولاء الاستراتيجي للأصل و الحليف الاستراتيجي إسرائيل والدفاع عنها. ( وهو الذي ما “يصرح” بمثل هذا اعادةً لدعم هذا التأكيد كلّما سنحت الفرصة آخرها اليوم من كندا في اجتماع G7).
2⃣ثانيًا، رفض الانجرار في حرب “هجومية ” ضد #إيران ، في تناقض محسوب مع رغبة بعض متطرفي تل أبيب.
وبناءً على هذا الموقف، لا يريد ترامب أن يُستخدم كذريعة لصدام إقليمي يخرج عن السيطرة، بل يسعى لفرض منطق “الردع المتبادل” وضبط الإيقاع من بعيد، حتى لو تطلب الأمر أن “تتلقى إسرائيل بعض الضربات” لتفهم حدود الدعم الأميركي غير المشروط.
لكن، هل يُعاقب ترامب إسرائيل تلميحًا؟
ربما، فالسماح بمرور بعض الضربات الإيرانية – رغم القدرة على منعها – ليس عجزًا أميركيًا، بل أداة ضغط استراتيجية على إسرائيل، “دون إغفال القدرات الصاروخية الإيرانية، سواء في مجال التصنيع أو الاستيراد من الصين وروسيا”.
خاصةً أن #ترامب، في ولايته الحالية الأخيرة، لم يعد مضطرًا لمغازلة اللوبيات أو دغدغة مشاعر الشارع المحافظ، بل أصبح رئيسًا مطلق الصلاحية سياسيًا.
ومن هنا،
يريد أن يجبر تل أبيب على القبول بتهدئة أو مفاوضات مع طهران إذا اقتضت الضرورة،
ويريد أن يثبت أنه “رجل سلام” وليس “رئيس الحروب”، خلافًا للديمقراطيين الذين تورطوا في صراعات طويلة الأمد.
إضافة إلى ذلك، يريد أن يمهد لمبادرة دبلوماسية تاريخية قد تؤهله لنيل جائزة نوبل للسلام، أو على الأقل تخلده في كتب السياسة كمن أوقف أخطر حروب الشرق الأوسط في بداياتها.
فالرسالة الترامبية واضحة: “لستم مخوّلين مطلقًا لاستخدام الغطاء الأميركي في مغامرات مدمّرة دون موافقة البيت الأبيض.”.
“أما عن #إسرائيل: و إعادة رسم الجغرافيا الأمنية… وإسقاط النظام الإيراني”:
فمن وجهة نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فإن هذه الحرب لم تكن مجرد رد فعل على تهديدات أو ضربات إيرانية، بل مرحلة من مخطط استراتيجي أوسع لإعادة ضبط و تشكيل جغرافيتها الأمنية على مرحلتين ( كما ذكرنا ذلك في مقالنا البحثي الاستشرافي الاستراتيجي بتاريخ 14-12-2024 هنا على منصتنا @drhk88):
1⃣المرحلة الأولى ( قبل أشهر ): كانت ضرب المحيط الجغرافي المباشر – شملت هذه المرحلة قطاع غزة، الضفة الغربية، جنوب لبنان وسوريا ، حيث هدفت إسرائيل إلى تحييد الجبهات المتاخمة، وإغلاق منافذ الدعم الميداني لحزب الله وحركة حماس و قطع طرق الإمداد العابرة من طهران إلى لبنان عبر بغداد و دمشق، والذي كان يشكل تهديدًا استراتيجيًا.
2⃣المرحلة الثانية : مهاجمة المحيط الجغرافي غير المباشر وتشمل #إيران، العراق، اليمن. بعد الانتهاء من استهداف طريق الإمداد الإيراني البري من طهران إلى جنوب #لبنان عبر بغداد و دمشق والسيطرة على الجغرافية السورية.
وقد أكدت تقارير The Jerusalem Post وInstitute for National Security Studies أن:
” تل أبيب تنظر إلى الضربات في العمق الإيراني ليس كعمليات منع، بل كفرصة لتغيير المعادلة الاستراتيجية جذريًا.”
كما أن الهدف الإسرائيلي الأبعد يتعدى مجرد تقويض القوة الإيرانية ومنعها من الردع النووي، إلى إسقاط النظام الإيراني نفسه عبر عدة مسارات متزامنة: ضربات جوية موجهة، جرّ الولايات المتحدة إلى تدخل عسكري مباشر، وتحفيز اضطرابات داخلية أو حتى انقلاب عسكري والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى إلغاء المشروع النووي.
نتنياهو بين فكّي كماشة: التصعيد… أم الرضوخ لمعادلة ترامب؟
بناءً على هذه الرؤية، كان نتنياهو يعتقد أن إشعال صدام مباشر مع إيران سيُجبر واشنطن على التدخل عسكريًا، كما فعلت في صراعات الشرق الأوسط سابقًا.
لكنّ المفاجأة أن ترامب، رغم قربه من إسرائيل، رفض الانخراط في مواجهة مفتوحة، وترك نتنياهو يواجه تداعيات المغامرة منفردًا.
الآن، النتن ياهو أمام خيارين كلاهما مرّ:
إما أن يواصل الحرب ويُصعّد أكثر على أمل أن يؤدي هذا التصعيد إلى تدخل عسكري أميركي مباشر،
أو أن يرضخ لمعادلة ترامب – التي تقوم على الردع لا الحرب – ويوقف التصعيد تفاديًا لخسائر أشد داخليًا واستراتيجيًا
كما أشار أحد المعلقين لـ الشؤون الأمنية في صحيفة هآرتس:
”نتنياهو دخل هذا الرهان وحده… فإما أن يخسر وحده أو يرضخ لمعادلة أقوى منه.”
ترامب أيضًا في اختبار: صبر أم صفقة بأي ثمن؟
على الضفة المقابلة، يعيش ترامب معادلة دقيقة: إما أن يصبر حتى تنضج الظروف لفرض حل سياسي على الطرفين (وهو ما يتطلب تحمل المزيد من الضغط الإعلامي واللوبي الإسرائيلي)،
أو أن يعقد صفقة عاجلة، تضمن وقف إطلاق النار بأي ثمن، على أن يُستثنى الخيار العسكري الأميركي من الطاولة نهائيًا.
حتى الآن، تبدو مؤشرات ترامب واضحة بأنه لا يريد أن تتورط أميركا في حرب مباشرة مع إيران، بل يرى أن الصبر الاستراتيجي جزء من “فنّ الصفقة”.
وهذا القرار ليس مجرد ميل شخصي، بل يستند إلى عدة أسباب استراتيجية وشخصية عميقة:
1⃣تجربة العراق المؤلمة
ترامب، مثل كثير من الاستراتيجيين الأميركيين، لا يريد تكرار مستنقع العراق، الذي كلّف الخزينة الأميركية أكثر من تريليونَي دولار بحسب Brown University’s Cost of War Project، وخسائر بشرية ونفسية هائلة.
وقد عبّر ترامب أكثر من مرة عن أن غزو العراق كان:
”أسوأ قرار في تاريخ أميركا”،وهو لا يريد أن يُسجل عليه أنه فتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط في نهاية ولايته الأخيرة.
2⃣الصين وروسيا وباكستان في الخلفية:
يدرك ترامب أن إيران لم تعد دولة معزولة كما كانت، بل محاطة بتحالف غير معلن من قوى كبرى ترى في بقاء النظام الإيراني جزءًا من أمنها الاستراتيجي.
الصين وروسيا النوويتان، تحديدًا، تعتبران أن أي تدخل عسكري أميركي مباشر ضد طهران سيُحوّل المنطقة إلى حرب استنزاف مديدة لأميركا، وهو ما يخدم أهدافهما الجيوسياسية بكبح الهيمنة الغربية.
أما باكستان
النووية، فترى في انهيار إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، و”كسرًا للسياج الجيوسياسي” الذي يمنع تطويقها إقليميًا.
وقد صرّح وزير الخارجية الباكستاني الأسبق شاه محمود قريشي عام 2020 أن:
”نحن لا نريد حربًا في المنطقة… فإذا اندلعت، فلن تقف باكستان بمنأى عنها.”(المصدر: Al Jazeera, Dawn News 2020)
كما نقلت المصادر أن القيادة الباكستانية أبلغت واشنطن وطهران على حد سواء بأن:
”سقوط إيران أو استهدافها سيفتح أبواب الجحيم في الإقليم، وباكستان ستكون في مرمى النيران.”
3⃣الخليج تحت النار – النفط والغاز والمضائق:
مضيق هرمز، الذي تمر منه نحو 20% من تجارة النفط العالمية، سيكون هدفًا مباشرًا لأي رد إيراني.
كما أن البنية التحتية للطاقة في الخليج (السعودية، الإمارات، قطر، الكويت) مهددة بالقصف، ما يعني شلّ الإمدادات العالمية.
ترامب، الذي يفاخر بنجاح الاقتصاد الأميركي وفرض التعريفات الجمركية وغيرها من الإجراءات التجارية و الاقتصادية ، لن يغامر بسحب السوق إلى فوضى نفطية عالمية تؤدي إلى انفجار أسعار الطاقة وركود اقتصادي.
وقد نقلت CNBC أن البنتاغون أبلغ ترامب مبكرًا بأن:
”أي مواجهة مباشرة مع إيران ستُهدد مصالح أميركا الحيوية في الطاقة، وستجعل من أمن الخليج عبئًا لا يمكن تحمّله.”
4⃣التوازن القسري بدل الحرب المباشرة
يرى البعض ان سلوك ترامب يشرح تبنيه عقيدة الردع دون الانخراط، او كما يطلق عليها بعض المحللين بـ مصطلح”التوازن القسري”، وهو ما يجعل من “الضغط من بعيد” أداة لتحقيق الأمن دون تكلفة الغرق في الصراعات.
5⃣الحلم الدبلوماسي وجائزة نوبل
كرجل يهتم بتراثه السياسي، فإن ترامب يرى أن إنجاز “سلام نووي بين إسرائيل وإيران” سيُدخل اسمه التاريخ، وربما يُرشحه لنيل جائزة نوبل للسلام، بدل أن يُسجَّل كرئيس فجّر حربًا لا نهاية لها.
وقد نقلت Fox News مؤخرًا عن أحد مستشاريه:
“الرئيس يرى أن ما تفعله إسرائيل الآن ليس في مصلحة أميركا… وهو لن يسمح بزج القوات الأميركية في صراع طويل وغير محسوب العواقب.
السؤال الأهم:
لماذا لم يتم اعتراض كل الصواريخ الإيرانية؟
في ضوء ما سبق، فإن تفسير التهاون بمرور بعض الضربات يأخذ بعدًا سياسيًا أكثر من كونه تقنيًا.
ففنيًا و عسكرياً، لا توجد منظومة دفاعية قادرة على اعتراض 100% من الصواريخ، خصوصًا في الهجمات المركبة والمشبعة.
لكن سياسيًا، ( ربما ) أن إدارة ترامب تهاونت ترك بعض الضربات تمرّ لأسباب مثل إبقاء إسرائيل في حالة حذر و تحت الضغط، وخلق مبررات سياسية للردود المحدودة، وإرسال رسائل لإيران بأن التصعيد سيبقى مضبوطًا طالما لم تُستهدف المصالح الأميركية.
عن دور AIPAC: الضغط بصبر أم تمرد مكتوم؟
وبين هذا وذاك، يقف اللوبي الصهيوني في واشنطن حائرًا في كيفية التعامل مع رئيس لا يخضع للأدوات التقليدية للضغط السياسي، فرغم أن ترامب هو الحليف التاريخي لإسرائيل، إلا أن اللوبي الصهيوني في واشنطن (AIPAC) بدأ يشعر بقلق حقيقي من تباطؤ دعم ترامب للهجمات الإسرائيلية.
أوراقهم تتمثل في تأليب الكونغرس، واستخدام الإعلام المحافظ لإحراج ترامب، والضغط على نواب جمهوريين.
لكنهم لم يصطدموا علنًا به حتى الآن، لأنهم يعرفون أنه لا يملك ما يخسره، وبالتالي لا يمكن ابتزازه.ولوحظ أن AIPAC قلّلوا ظهورهم الإعلامي مؤخرًا، ربما لأنهم يعيدون دراسة كيفية التعامل مع رئيس لا يخضع للأدوات التقليدية للضغط السياسي.
عودة ومستقبل المفاوضات النووية: تهدئة مرحلية أم صفقة شاملة؟
وفي خلفية كل هذا التصعيد، تشير مصادر إعلامية إلى استعداد واشنطن لإعادة فتح قنوات التفاوض مع طهران، فرغم تصاعد الحرب الكلامية والضربات المتبادلة، تشير بعض المصادر الإعلامية و الدبلوماسية إلى أن الولايات المتحدة عبر وسطاء إقليميين ودوليين تُمهّد بهدوء لإعادة فتح قنوات الاتصال مع طهران بشأن برنامجها النووي، ضمن تصور بعيد المدى يشمل الأمن الإقليمي وتقييد الطموحات الإيرانية.
لكن، هل تُعد هذه المفاوضات جزءًا من اتفاق تهدئة مباشر بين إسرائيل وإيران؟
الإجابة: لا، ليست جزءًا صريحًا من الاتفاق العسكري أو الأمني بين الطرفين، لكنها مرتبطة به بشكل غير مباشر.
فالهدف الأميركي – حسب تقرير The Wall Street Journal بتاريخ 7 جون 2025 – هو:
”منع التصعيد العسكري من تقويض احتمالات العودة إلى المفاوضات النووية، وترك باب الدبلوماسية مواربًا حتى في ذروة التوتر.”
وقد نقل دبلوماسي أوروبي مشارك في جهود الوساطة أن إيران لم ترفض مبدأ العودة للمفاوضات، لكنها تشترط:
”وقف العمليات الإسرائيلية داخل أراضيها كليًا” قبل أي تقدم في هذا الملف.
في الختام:
ترامب اليوم ليس رجل الحملة الانتخابية، بل رجل الإرث السياسي.
وفي ضوء ما تقدم، يريد أن يُحسب له أنه أعاد رسم حدود الدم والبارود في الشرق الأوسط، لا أنه غرق فيها.
وهكذا، في لعبة النار والدخان هذه، قد تكون “الضربة التي تمرّ” أقوى من مئة صاروخ يُعترض.
| د.حمزة الكناني | باحث في العلاقات الدولية والاستراتيجية
ظهرت المقالة التوازن القسري (Forced Balance) في الشرق الأوسط: واشنطن بين ضبط الحلفاء واحتواء الخصوم” أولاً على شبكة موقع الإعلامية.