اعتاد طلاب الدكتوراه الفوضى التي يشهدها التعليم العالي منذ سنوات عدّة، ولاسيما في ظل انتشار الجامعات الخاصة التجارية، والتفلت في منح شهادات الدكتوراه في الجامعة اللبنانية، وولهذا السبب علت ضرختهم اعتراضاً عندما جرت محاولة تطبيق المراسيم الناظمة لآلية نشر الأبحاث، في التعليم العالي الخاص. فقبل شهر شباط من العام 2024 لم يكن مرسوم تحديد آلية النشر مُفعلاً، وكان الطلاب في الجامعات الخاصة ينشرون الأبحاث في مجلات غير محكمة وغير موثوقة. وكان بإمكان أي شخص أن يحصل شهادة الدكتوراه ولو على سبيل الهواية أو للمفاخرة بتعليقها على جدار منزله أو المكتب.لكن تغييراً قد طرأ، وبعد شهر شباط بدأت مديرية التعليم العالي بتطبيق المرسوم 10068 الذي يحدد آلية نشر الأبحاث فعلت صرخة الطلاب بعدما كشف تطبيق هذا المرسوم عدم وجود مجلة علمية محكمة ومفهرسة في لبنان، وأن كل الأبحاث التي تخرّج على أساسها آلاف الطلاب، وحاز بناء على النشر فيها، أساتذة في الجامعة اللبنانية على رتبة أستاذ، ليست مستوفية الشروط، لأن أبحاثهم نشرت في مجلّات تدعي التحكيم وليست محكمة. ما يفتح الباب على فضيحة من العيار الثقيل في التعليم العالي في لبنان.تطبيق المرسوم الناظم للأبحاثومنذ مدة يشكو طلاب الدكتوراه في الجامعات الخاصة من تشدد لجنة المعادلات في التعليم العالي حول نشر الأبحاث تطبيقاً للمرسوم الآنف الذكر. وسبق ولفتت "المدن" إلى هذه القضية التي كشفت "عورة" التعليم العالي في لبنان. لكن تبين مؤخراً أن جامعات عدة لم تبلّغ طلابها بأصول نشر الأبحاث والأنظمة التي تستوجب الالتزام بنصوصها. وقد شكا الطلاب لـ"المدن" من الشروط "التعجيزية" التي تضعها وزارة التربية والتي تفرض على الطلاب النشر في منصات عالمية مثل "سكوبوس" تحت شرط رفض منحهم المعادلة لشهادتهم. وتبين أن الطلاب عرضة للشائعات بعد تحريضهم للضغط على المسؤولين لعدم تطبيق القوانين.وفي التفاصيل، يشترط المرسوم 10068 المتعلق بالتعليم العالي الخاص لمنح شهادات الدكتوراه والرتب العلمية، على طالب الدكتوراه نشر بحثين أصيلين كباحث أول في مجلة محكّمة وموثّقة أو مفهرسة، مع وجوب أن تكون الأبحاث من موضوع أطروحة التخرج. وتدرس لجنة البرامج مدى الانتحال والنسبة وإذا كانت مقبولة. وتنفي مصادر في مديرية التعليم العالي نفياً قاطعا أن تكون اشترطت النشر في منصة "سكوبوس" العالمية، بل طلبت النشر في أي بنك فهرسة يصنف المجلات العلمية المحكمة والمرموقة والموثوقة. فالمجلات التي تنطبق عليها هذه الصفات لديها معايير عالية لاختيار الأبحاث قبل نشرها، وبنوك الفهرسة المرموقة لا تنشر لأي مجلة لا تحمل تلك الصفات. وثمة بنوك فهرسة كثيرة وعديدة لكل اختصاص، وتقبل وزارة التربية النشر في أي منصة فهرسة محترمة. والنشر في هذه المنصات ليس أمراً مستحيلاً إذا كانت الأبحاث ملتزمة بشروط النشر المنصوص عليها بالمرسوم. لكن العديد من الطلاب لجأوا إلى "الشوشرة" والشكى من الانتظار لستة أشهر أو أكثر كي تنشر أبحاثهم في تلك المنصات. بينما العديد منهم نشر في مجلات في لبنان منها "أوراق ثقافية" وغيرها، على الرغم من أنها مجلات غير محكّمة وغير معروفة أساسا وغير معتمدة في أي بنك فهرسة له شأن، والنشر فيها لا يجعل البحث ضمن المراجع، ولا تقدم أي قيمة مضافة للطالب ولا تساهم حتى في جعل اسمه معروفاً. فليس كل مجلة تدعي أنها محكمة هي كذلك، تقول المصادر.إشكالية الطلاب مع الجامعاتترفض بعض الجامعات الخاصة حالياً مناقشة الطالب قبل النشر بمجلات محكمة، كدليل على أن الجامعة تريد تطبيق القوانين. لكن في الوقت عينه ترفض منح الطلاب الذين ناقشوا الأطروحة سابقاً إفادة التخرج، على الرغم من أن الطالب الذي تخرج من الجامعة وناقش أطروحته يفترض أن يحصل على الإفادة، ويقرر بعدها إذا كان يريد معادلة شهادته في وزارة التربية. ففي هذه المرحلة علاقة الطالب في الحصول على معادلة الشهادة تصبح مع لجنة المعادلات في وزارة التربية، ولا دخل للجامعة بالأمر. لكن الجامعات تخاف على سمعتها، أو ربما افتضاح أمرها بأنها خرجت طلاباً لم ينشروا في مجلات محكمة ومفهرسة. وهذا أدى إلى ضياع الطلاب وتصاعد صرختهم. ففي حال منحوا إفادة سترفض لجنة المعادلات معادلة الشهادة في حال كان نشر الأبحاث غير متوافق مع النصوص المرعية الإجراء. وحينها تدخل الجامعة في مشاكل مع الطلاب. والمسؤولية تقع على الجامعة وعلى الطالب في عدم الالتزام بأصول النشر.الفضيحة تطال الجامعة اللبنانيةالعديد من الطلاب نشروا أبحاثهم في مجلات نشر فيها زملاء لهم في الجامعة اللبنانية. من هذه المجلات مجلة "أوراق ثقافية". طلاب الجامعة اللبنانية تخرجوا وبات لديهم شهادة دكتوراه، فيما طلاب الجامعات الخاصة رفضت أبحاثهم في لجنة المعادلات. فهذه المجلة غير محكّمة وغير مفهرسة في أي بنك فهرسة. المعضلة هنا أن طلاب الجامعة اللبنانية ليسوا بحاجة لمعادلة الشهادة طالما أنها الجامعة اللبنانية. بينما طلاب الجامعات الخاصة، بما فيها تلك التي تعتبر من الجامعات المرموقة في لبنان، ولديها رصانة علمية لا تتوفر في الجامعة اللبنانية، لم يتخرجوا أو رفضت معادلة شهادتهم.الجامعة اللبنانية لها أنظمتها الخاصة بما يتعلق بشهادة الدكتوراه ولديها المجلس العلمي للمعاهد العليا للدكتوراه، الذي يقرر المجلّات التي يمكن النشر فيها. ولا دخل لوزارة التربية في الجامعة اللبنانية لأنها مستقلة، بينما تخضع الجامعات الخاصة للمرسوم 10068 الذي يفرض شروطاً على النشر. فإذا كانت الجامعة اللبنانية تبيح لطلابها النشر كيفما كان فهذا لا يعني عدم تطبيق القوانين على الجامعات الخاصة. بل الأمر بحاجة لتطبيق القوانين في الجامعة اللبنانية. في الجامعة اللبنانية منح شهادة الدكتوراه مفتوح على غاربه. ولا يقتصر أمر نشر الطلاب أبحاثاً في مجلة "أوراق ثقافية"، هناك مدرّسون في الجامعة نالوا رتبة بروفسور بعد نشر أبحاث في هذه المجلة. أحدهم نشر عشرة أبحاث في سنة واحدة في المجلة ذاتها ونال على أساسها رتبة بروفسور من الجامعة اللبنانية. هذا على الرغم من أن المفترض لنيل هذه الرتبة أن يكون البحث أصيلاً، ولا يمكن أي باحث مهما علا شأنه نشر أكثر من بحث اصيل بالسنة، في حال الالتزام بالمعايير والأعراف الأكاديمية الراسخة. سيل الأبحاث بهذه المجلة خير دليل على أن النشر فيها لا يعتد به كبحث أصيل. ليس هذا فحسب، بل تبين أن هذه المجلة كانت مطبوعة أسبوعية غير السياسية، تحت اسم «فكر معنا» وتم نقل ملكيتها في العام 2019 بقرار صدر عن وزير الإعلام جمال الجراج وغيرت اسمها لتصبح مجلة أوراق ثقافية فصلية. وهذا الأمر لا يفترض إعادة تقييم الأبحاث في الجامعة اللبنانية ومعرفة مدى التزامها بالمعايير العلمية والأكاديمية، بل إجراء تحقيق قضائي في الجامعة حول كيفية منح رتب "الأستذة"، وحينها ستفتح أبواب مغارة علي بابا، كما يقول أحد المخضرمين في الجامعة.