مرة جديدة، تابع اللبنانيون مشهد الجنوبيين العائدين إلى مدنهم وقراهم بمشاعر مختلطة من التعاطف والإعجاب والدهشة والحذر.
سرق الجنوب الاهتمام من كل الأحداث والاستحقاقات: عهد جديد، حكومة في طور التأليف، زيارات أنجزت، أو مرتقبة، لمسؤولين عرب وأجانب، كلها تراجعت لتتقدم أخبار الجنوب ورسائله.
لم يغب عن بال أحد أن العودة مذيّلة بتوقيع حزب الله. مع ذلك، تقدمت صورة الناس المتلهفين للوصول إلى ما تبقى من منازلهم، فحجبت ما عداها.
لم يُطوَ نهار الأحد، إلاّ وهُدرت تلك "الصورة" الاستثنائية. فعلها شبان على دراجات يحملون أعلام حزب الله وشعاراته ويطلقون هتافات مستفزة. جابوا المناطق من فرن الشباك إلى عين الرمانة وبرج حمود، ومن المنارة وساقية الجنزير وقصقص إلى الجميّزة وغيرها.
هو مشهد مكرر عند كل استحقاق ومفصل سياسي. يعيد حزب الله من خلال "قمصانه السود" تارة، والدراجات الأشد سواداً تارة أخرى، استعراض قوته وتذكير اللبنانيين بانه يستسهل الفتنة واستخدام السلاح في الداخل.
ولمن فاته فهم رسائل الحزب التي بدأت تتوالى منذ صباح الأحد وحتى ساعاته المتأخرة، تولى نوابه توضيحها بصيغة شبه موحّدة، ولا تحتمل الالتباس: "معادلة الجيش والشعب والمقاومة ليست حبراً على ورق، شاء من شاء وأبى من أبى".عود على بدءلم ينته نهار الأحد إلّا وقد عاد استشهاد 24 لبنانياً جنوبياً، بينهم أطفال، شأناً وحزناً شيعياً. سقط "التعاطف" قبل أن تبدأ الإسقاطات السياسية وتحميل حزب الله "مسؤولية استسهال التفريط بحياة الناس، واستغلال دم اللبنانيين، الشيعة من بينهم تحديداً، في الاستثمار السياسي".
سريعاً بدأت القراءات والتحليلات السياسية. "هي حرب الردّة يخوضها حزب الله على ما اعتبره تحجيماً لدوره ومحاولة لفرض شروط سياسية عليه، لاسيما في الحكومة وبيانها الوزاري، تترجم ما يراه خصومه هزيمة عسكرية".
أكثر من فريق بالمعارضة اعتبر أن حزب الله يستخدم أدوات سياسية قديمة في مرحلة سياسية جديدة. وأن "لعبة الأهالي، ولو كان من بينهم من ذهب مندفعاً بكل صدق وحب باتجاه أرضه وبيته، إلّا أنها لا تنطلي على أحد. فتنظيم الحزب للإطار العام للعودة لا يحتاج إلى تدقيق كبير ولا إلى جهد لقراءة رسائله السياسية الموجهة للرئيس المكلف نواف سلام وإلى رئيس الجمهورية. ولا بأس من أن تصل بعض عناوينها لجميع خصوم الداخل والخارج".تنسيق المعارضة ورسائلهاوكما وضّح حزب الله مواقفه ببيانات نوابه وتصاريحهم، كذلك فعل معارضوه بتصاريح وبيانات ومواقف.
لكن أبعد مما هو معلن، نشطت المعارضة في التواصل في ما بين مكوناتها، أفراداً وأحزاباً، لتوحيد الموقف ومنع "تهويل" حزب الله، واستعادته لمنطق تهديد العيش المشترك، من أن يجد له ترجمات سياسية. وكان التشديد على وجوب "تحصين العهد الجديد فلا يخضع الرئيسان سلام وعون للضغوط تحت عنوان احتواء التوتر ومنع تفجّر أزمة جديدة في البلد". كذلك حرصت المعارضة على إيصال رأيها للرئيسين وتأكيدها "التمسك بدعم الأمل الذي يمثلانه".
ويكشف احد نواب المعارضة لـ"المدن" أن "موقف المعارضة اليوم شديد الدقة، وثباتها هو ما سيرسم معالم المرحلة المقبلة". ويشرح قائلاً: "أي قبول اليوم بمنطق التخويف والفرض والتهديد لا يعيدنا فقط إلى نقطة الصفر على صعيد بناء الدولة والمؤسسات، إنما يكّرس منطقً محور الممانعة الممجوج الذي لا يقيم اعتباراً لناسه أولاً، فكيف لسائر اللبنانيين". يضيف "إن تمسك المعارضة اليوم بالسير بخيار الدولة القوية لا يدعم فقط موقف عون وسلام، إنما يرسل الإشارات لدول العالم التي تريد الوقوف إلى جانب لبنان، للقول إن زمن استقواء الحزب على سائر اللبنانيين والاستئثار بالبلد وقراراته قد ولّى. ونحن نريد الإصلاح على كل المستويات السياسية والدستورية والقانونية والاقتصادية والمالية. وهذه جميعاً مرتبطة بإسقاط سطوة السلاح ودوره في الحياة اللبنانية. ومنطق الدولة هو تماماً نقيض لمنطق التخويف والخوف".