2025- 11 - 12   |   بحث في الموقع  
logo الرئيس عون: أبو سليم مدرسة متكاملة في الأخلاق والفن والالتزام logo الصدي عرض أمام الرئيس عون خطة الوزارة لمعالجة أزمة الطاقة logo هاني يزور قضاء جزين ويلتقي البلديات والفاعليات الزراعية logo عون قلّّد “ابو سليم” وسام الاستحقاق اللبناني الفضي logo كريم كبارة: طرابلس على شفير الانفجار الاجتماعي والحكومة مطالبة بخطة عاجلة logo هزة أرضية إضافية logo رسامني يدرس ملفات إنمائية وخدماتية للمناطق اللبنانية logo متابعة تقنية لمشروع النقل السككي وربط بيروت بطرابلس
عمر الشعار بين السجانين: أنت تتحدث الإنكليزية!
2025-01-23 00:25:44

الاسم :عمر الشعار
المؤهلات العلمية: خريج إعلامالمهنة: رئيس تحرير سابق لموقع "دي برس" اللغة الإنكليزيةالتهمة: بث الشائعاتلم أكن أعلم أن ذلك اليوم من العام 2015 سيكون آخر أيامي في دمشق. كنت أتجول في أزقتها التي لطالما عشقت، متمنياً أن تتنفس الحرية التي تستحقها.أنا ابن مدينة الأتارب في ريف حلب، حيث أُهدر دمي بسبب أفكاري العلمانية. لكن دمشق فتحت لي ذراعيها كما تفعل مع كل غريب، رغم أن ذراعيها كانتا مكبّلتين مثلنا تماماً. ومع ذلك، لم تعرف يوماً طعم الاستسلام.كنت أدخّن وأفكر: ماذا لو أعددت لنفسي طبقاً من الخضار مع كأس من العرق، مشروبي المفضل؟ ثم أجلس كعادتي أحدق من نافذة بيتي في حي جرمانا، نحو إطلالة "الشام" كما أحب أن أسميها.ذهبت إلى بائع الخضروات، الذي استقبلني بحفاوة وسرعان ما همس لي بشكل غير مباشر أن أختار الطازج منها، مؤكدًا على ضرورة الحذر.. شعرت بنبرة تحذير في صوته، قبل أن يخبرني أن دورية من فرع فلسطين زارت الحي اليوم، تسأل عن صحافي قد يكون مقيماً هناك. أنا الذي اخترت أن أعيش في هذا الحي من دون عقد إيجار رسمي، حتى لا يتمكنوا من الوصول إلي. فهمت الرسالة. صعدت إلى منزلي على عجل، جمعت أغراضي وكل ما أملك من وثائق، وغادرت دمشق إلى بيروت بعد ثلاثة اعتقالات، وفي قلبي غصة.
الاسم الحركي: نبيل
الأعوام تحفر في ذاكرتي، ليس بفعل الأرشفة، بل بفعل التعذيب والترويع. في العام 2013، اقتحمت منزلي عناصر أمنية مجهولة الهوية، ينتمون إلى إحدى الفرق المشتركة التابعة للقصر الجمهوري التي تشكلت مع بداية الثورة. كانت هذه الفرق تعتمد على سيارات مسروقة لتنفيذ مهامها، ووجدت نفسي في إحداها، مع كل ما صادروه من منزلي: اللابتوب، الكاميرا، الذهب، النقود. وقتها كنت رئيس تحرير موقع "دي برس" المستقل باللغة الإنجليزية. انتهى بي الأمر في زنزانة منفردة لا تتجاوز مساحتها المتر المربع الواحد، في سجن تابع للحرس الجمهوري مقابل مطار المزة العسكري.البداية كانت بما يُعرف بـ"حفلة التعذيب". تعرضت لضرب مبرح وحرق بالسجائر، وما زال جسدي يحمل آثارها. بعد كل جولة تعذيب، نُعاد إلى الزنزانة، حيث يفتح السجّان النافذة الحديدية ويبدأ بإصدار أوامر عشوائية: "جلوس، وقوف، إلى اليمين، إلى اليسار". هذه الأوامر كانت شبه مستحيلة التنفيذ في الزنزانة الضيقة المزدحمة بـ11 شخصاً.أي محاولة للتواصل مع الآخرين أو اعتراض على الأوامر كانت كفيلة بإعادة الشخص إلى حفلة التعذيب من جديد. تلك الأيام لم تكن مجرد تجربة اعتقال، بل وصمة ألم تخلدت في ذاكرتي، شاهدة على قسوة نظام قمعي لا يعرف الرحمة.ما هي تهمتي؟ سؤال سيطر على أفكاري وأنا أحاول فك شيفرة ما يمتلكونه من معلومات عني. حاولت الهروب من هذه الدوامة الذهنية عبر تمارين تعلمتها من سجناء آخرين: استرجاع مشاهد الأفلام التي شاهدتها، وكأني أراها للمرة الأولى، والغوص في تفاصيل الروايات التي قرأتها.وسط ذلك، قطعت أصوات التعذيب تركيزي. سجناء جُدد تم جلبهم، وعلمنا لاحقاً أنهم من معتقلي المخابرات الجوية الذين غمرت مياه الصرف الصحي زنزاناتهم، فنُقلوا إلى هنا. تساءلت: أي فيلم يمكن أن يصور مثل هذه البشاعة؟الأوكسجين ينفد من الزنزانة، وأنفاسي تتسارع. ثم جاء صوت السجان كإنقاذ مؤقت. "إلى التحقيق"، قالها ببرود. التهمة: "الاقتباس" من وكالات أجنبية مثل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، لنقل أخبار اعتبروها تمجيداً لـ"الإرهابيين"، مع تجاهل الاقتباس من وكالة "سانا" الرسمية.صمتّ وأنا أحاول تقييم مدى معرفتهم بحقيقة عملي. انتهى التحقيق بسيل من الاتهامات: التخابر مع جهات خارجية، ودليله كاميرا أملكها وإتقاني اللغة الإنجليزية. وماذا عن نشري للقاء مع عبد العزيز الخير والراحل لؤي حسين؟ ثم جاء السؤال الكبير: "من هي الجهة الخارجية التي تعمل لصالحها؟". أجبت بثبات أني صحافي مستقل، أنقل الأخبار فقط. ما لم يعرفوه هو أني كنت المصدر الأساسي لتلك الأخبار، أرسلها للصحف الأجنبية تحت اسم مستعار "نبيل"، ثم أعيد نشرها بعد اقتباسها منها.وثّقت كل شيء، من مظاهرة المثقفين في "الميدان" إلى أصغر تحرك مدني. شعرت ببعض الارتياح لنجاحي في حماية زملائي الذين عملوا معي في الخفاء.نظرت حولي. رجل كان مشبوحاً على شجرة حتى تلفت أعصاب يديه، وآخر تلفت أعصاب قدميه بالطريقة ذاتها. أصبحا يعتمد كل منهما على الآخر، يشكلان معاً جسداً واحداً يساعد بعضه بعضاً.أغمضت عينيّ، أحاول الهرب إلى فيلم عاطفي جميل يعيدني إلى مجدولين، زوجتي، التي كانت دائماً ملجئي الوحيد في عتمة هذا الجحيم.أمن الدولةصدر القرار بنقلي إلى قسم الأجانب في أمن الدولة. هناك، التقيت بصحافي بريطاني حاولت التحدث معه، لكن صوت السجان كبح أي محاولة للحوار. المكان كان مختلفاً؛ أصوات التعذيب أقل، لكن التهم هنا أخطر."لماذا تحدثت عن دماء في الشوارع وإطلاق الرصاص على المتظاهرين خلال لقاء تلفزيوني عبر قناة لبنانية؟"، كان السؤال الأول الذي وُجّه إليّ. حاولت تبرير الأمر بأني نقلت تلك المعلومات عن صحف أجنبية. لكن التحقيق لم يتوقف: "ماذا عن مظاهرات حرستا والقابون؟ أنت تبث الشائعات".سألتهم: "لماذا أنا في قسم الأجانب وأنا مواطن سوري؟" فجاء الرد سريعاً: "لأنك تتحدث الإنجليزية، وهذا أخطر سلاح يمكن أن تمتلكه في هذه المرحلة".كان هذا الجواب صادماً، خصوصاً أني لم أجد محققاً واحداً يتحدث الإنجليزية، فكيف يمكنهم التحقيق مع الصحافيين الأجانب الذين يُحتجزون في هذا القسم؟ أم أنهم يُتركون لمصيرهم، من دون تواصل أو تحقيق حقيقي؟في هذا المكان، أدركت أن اللغة، التي اعتبرتها وسيلة للتواصل ونقل الحقيقة، أصبحت في نظرهم جريمة وسلاحاً يهدد وجودهم.تمر الأيام وأنا في زنزانتي، محاطاً بصحافيين أجانب، أعجز عن التواصل معهم. قبل نقلي إلى وجهة مجهولة، جاء الضابط المسؤول ليخبرني بجملة أثارت في داخلي مشاعر مختلطة: "أنت ذاهب إلى مكان آخر، وستخرج يوماً ما وستقول إننا أقل سوءاً من غيرنا".الغريب في الأمر، أنك عند ترحيلك من سجن إلى آخر، تشعر وكأنك وُلدت من جديد. فالترحيل هنا يشبه النجاة من موت محتم، خوصاً مع ما شهدناه من حالات وفاة تحت التعذيب. لكن الأخطر من ذلك هو التزوير المنهجي لحقيقة الوفاة.يتم تلفيق أسباب الوفاة بشكل ممنهج على أنها نتيجة "جلطة" أو "أمراض تنفسية"، وهي روايات رسمية تُوثَّق بالتعاون مع المستشفيات العسكرية. أما الجثث، فلا تُسلَّم لذويها، لضمان استمرار الغموض وإخفاء الحقيقة، ليبقى الألم والغياب من دون إجابات.المتاجرة بالعفولم تنتهِ رحلتي في السجن بعد، فقد نضبت الأفلام والروايات التي كنت أستعين بها لمواجهة الوقت. نُقلت إلى سجن عدرا، حيث هذه المرة كنت في زنزانة جماعية. كان علينا أن نتناوب على الوقوف والنوم بشكل يشبه السيف، فأي اختلال في التوازن قد يؤدي إلى سقوط متتال واختناقات عديدة بسبب التكدس. أما الطعام، فكان شحيحاً لا يكفي سوى بالكاد لإبقائنا أحياء، بينما التعذيب المعتاد يواصل استنزافنا.جاء ما يسمى "العفو الرئاسي"، ليُسقط عني تهمة بث الشائعات الكاذبة. مع مجموعة من السجناء، تم اقتيادنا إلى ما يُعرف بـ"سيارة اللحمة"، حيث نُقلنا إلى القصر العدلي. للمرة الأولى منذ زمن طويل، شعرت بنسيم الهواء وشاهدت الشوارع مجدداً. لكن هذا المشهد لمم يخلُ من الألم؛ أقدامنا رُبطت بجنزير واحد، وأي خطوة خاطئة أو انحراف عن المسار كان يُقابل بالضرب على مرأى الجميع.هنا بدأت "المتاجرة بمرسوم العفو"، ولم يُطلق سراحي على الفور. بحجة أنني أقطن في جرمانا، تمت إحالتي إلى محكمة الريف. هناك، تولى مكتب المحامي أنور البني الدفاع عني. وأخيراً، بعد كل هذه المعاناة، نلت الحرية. كان العناق مع زوجتي مجدولين أشبه بلحظة من فيلم رومانسي، لكنها كانت نهاية حقيقية لرحلة مريرة من الألم والمقاومة.لا مكان للحبأي حب يمكن أن يزهر في بلد غارق في الدماء؟ لم تمضِ سوى بضعة أسابيع على خروجي من المعتقل حتى التحقت بورشة تدريب تابعة لمفوضية الأمم المتحدة في بيروت. لكن، عند عودتي إلى الحدود السورية، اعتُقلت مجدداً من قبل الأمن السياسي. دفعت زوجتي كل ما تملك من نقود لإخراجي من المعتقل.عدت إلى الحرية مرة أخرى، لكن سرعان ما طاردتني المخاوف من جديد. أحاديث البائع عن "فرع فلسطين"، دفعتني للهرب إلى بيروت حيث استقررت مع زوجتي. إلا أن المضايقات لم تتوقف، خصوصاً بعد تعرضنا لمضايقات في مطار بيروت عقب عودتنا من مؤتمر لـ"مراسلون بلا حدود" في جنيف. عندها قررنا المغادرة نهائياً إلى فيينا.في لحظة السقوط الحر من عبء الماضي، أعددت أطباق الخضروات التي كنت أؤجلها. وضعت كأس العرق واحتفلت مع زوجتي. في تلك اللحظة، بكيت بشدة، ليس حزناً، بل فرحاً خالصاً بنهاية انتظرتها طويلاً. رسمت هذه اللحظة مراراً في مخيلتي، وأنا في المعتقل، أسمع صوت تصفيق السجناء بعدما أسدل ستار النهاية على رحلتي.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBAANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top