تقدم هبة نجم في عملها الجديد "فريكة"، ما بدأته من بحث مسرحي بعنوان "عروض تذوقية"، في محاولة منها توثيق الأكلات الشعبية، خصوصاً المهدّدة بالانقراض، وعلاقتها بالذاكرة والعاطفة والانتماء، وما يرافقها من حكايات شخصية وتقاليد مجتمعية منسوجة من مكوناتها.
"فريكة: منذ 40 يومًا ماتت عمتي"، عمل تفاعلي جديد يتقاطع فيه الطبخ والمسرح والذاكرة وما تحمله من مرويات تاريخية وأنثروبولوجية، تفتش عنها نجم انطلاقاً من تجاربها الشخصية او القريبة منها، وصولاً إلى مرويات متوارثة تجمع بين الأعراف الدينية والطقوس الأسطورية.
صفان من الكراسي المتقابلة على شكل طقس وجوب العزاء، يجلس عليها الجمهور ويشارك تفاعلياً في حفلة تذكارية وتكريمية فيها الموسيقى والحكايات وصوت العمّة اللطيف الآتي من المجيب الصوتي حباً وحناناً لابنة الأخ ويطمئن على يومياتها.
أرادت نجم توقيت العرض مسرحياً في أربعين العمّة الراحلة، لتتساءل عن هذا الرقم المتكرر من أربعين أسبوعاً لولادة الجنين من رحم أمه. أربعون عاماً وما تعنيه الفترة الانتقالية في الأديان السموية إلى الأربعين الذي كان أحد شعائر الحداد عند الفراعنة القدامى. رحلة أنثروبولوجية في معنى الحداد والفقد وما نتوارثه من تعاليم وعادات إكراماً للميت وذكراه على هذه الأرض. تؤجل نجم طبخة الفريكة، طبق العمة المفضّل، الذي يطهى طيلة فترة العرض خلف الجمهور المشارك في التذكر وتذكار الفقد مع الغناء والشجي مع تولي عازف الأكورديون سماح أبو المنى العزف الحي لمقاطع من النص ولأغنية إيطالية قديمة كانت العمة تشدوها. حين احترق القمح
رحلة طهي الفريكة لم تمر من دون نبش حكاية هذا التقليد المرتبط في الأصل بحبة القمح والتي منها تتفرع أكلات الحداد كطقس متنوع ومختلف، من خبز القربان إلى الهريسة. وللقمح قصة تراجيدية عرفها الاغريق مع "ديميتر"، إلهة الحبوب والفلاحة التي حزنت على ابنتها وأدى هذا الحزن إلى حرمان الشعوب من حبة القمح. أما لدى الكنعانيين، فلقصة الحزن والقمح، أسطورة الإله "داجون" الذي فسر أهل التاريخ اسمه قريباً من معنى "القمح أو قربان القمح"، فهو إله غَلة وحصاد الكنعانيين. لم يبق من كل حكاية "داجون" الأسطوريّة في الساحل غير ما تركه ذلك الإله المتروك في اسم واحدةٍ من القرى الفلسطينيّة عام النكبة، هي بيت دجن ويقال إنّ القرية قامت على أنقاض مدينة "بيت داجون الكنعانية القديمة، حيث شيّد الكنعانيون أحد أكبر معابد الإله "داجون" فيها. وظلَّ ذلك الموقع يحمل اسم داجونه على مدار الحِقب التاريخية إلى ما بعد الفتح العربي – الإسلامي وحتى ولادة بيت دجن العربية التي ورثت الموقع والاسم معاً في التاريخ الحديث. ظلّت بيت دجن، قرية تطمرُ القمح وذاكرة بذرهِ وذريهِ فيها، في حكايةٍ مردها إلى زمن إله القمح، يشهد عليها جُرن القرية وساحة مطاميرها، وهما المَعلَمان الأشهر في تاريخ بيت دجن. إذ يعني "الجرن" البيادر حيث تكوّمت غِلال حبوب الدجنيين بعد حصادها.
في نهاية الاحتفالية الطقوسية، تدعو نجم الجمهور لتزيين المائدة بالشموع والورود ولمزج التوابل والأعشاب في أطباق مرافقة للأكلة التي تجهز في نهاية العرض التذوقي الطقسي، من دون أن تنسى نسج حكاية الفريكة وتراجيديتها قائلة: "بالزمانات، كان في حقل قمح واحترق. هو احترق بالغلط، هني حرقوه، ما حدا بيعرف. من قهرن أخدوا كمشة قمح محروق وفركوا إيدن مع القمحات حسرة، داقوه تيترحموا عليه، قام المحروق طلع طيّب، سمّوه فريكة قد ما فركوه. هالحقل كان صوبنا، مدري بجنوب لبنان مدري بفلسطين، ما بتفرق. وهالقصة بتعمل من الفريكة أسطورة حبة كان لازم تموت..قامت بقيت".