لا شك في أن السيد حسن نصرالله كان من الشخصيات النادرة والقليلة والمؤثرة، في سيرته وكايرزماه وقدراته. "مالئ الدنيا وشاغل الناس" بتعبير المتنبي. ومع اغتياله، أصبح بمرتبة الأسطورة – الرمز أكثر مما كان في حياته، فوُصف بـ"حسين عصرنا" مع ما يرمز إليه هذا التوصيف من أهمية. بعد الحلقة الأولى، هنا حلقة ثانية من محاولة لكتابة جوانب من سيرته، تستند إلى بعض مقابلاته وإلى سيرة قصيرة كتبها يوماً بخط يده لمجلة إيرانية، إضافة إلى مراجع.لا تنفصل سيرة السيد حسن نصرالله، عن الواقع اللبناني والتحوّل الشيعي الإقليمي، من ظاهرة الإمام موسى الصدر في لبنان إلى ثورة روح الله الخميني في إيران. وقراءة سيرة السيد، هي قراءة لمسيرة حزب الله وظهور خلاياه وتأسيسه وصعوده وحتى إمساكه بمفاصل القرار في لبنان. فالسيد حسن، المعجب بالإمام موسى الصدر في فتوته، وكان على تقارب مع المرجع محمد باقر الصدر في العراق، عاد إلى لبنان في حزيران 1978 بعدما ضيقت المخابرات العراقية البعثية على الطلاب الدارسين في النجف. في 14 آذار 1978، حصل الغزو الاسرائيلي لجنوب لبنان، والذي عُرف بإسم "عملية الليطاني"، بهدف منع صواريخ منظمة التحرير الفلسطينية من بلوغ المستعمرات الإسرائيلية الشمالية، و"صنعت" إسرائيل حزاماً أمنياً في جنوب لبنان في ظل نظام لبنان هش. زاد الغزو من تمزّق بلد لم يكن خرج من آثار حرب السنتين (1975 – 1976)، ودخول الجيش السوري واغتيال الزعيم كمال جنبلاط، أيضاً في صيف 1978، أسدل الستار على جانب من جوانب الإمام موسى، المُلهِم الأول للسيد حسن. فرجل الدين المولود في قمّ(إيران)، والذي ظهر في لبنان العام 1959، اختفى في ليبيا بينما كان في زيارة للعقيد الليبي لقذافي في 25 آب 1978. اختفى... وصار للاختفاء معنى آخر وحكاية. غموض القصة كان في حدّ ذاته مصدراً لكثير من قوتها، وإلامام موسى كان قد رسم طريقاً جديداً ما بين إيران وشيعة لبنان. إلى ذلك، وقّع الرئيس المصري أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، اتفاق كامي ديفيد، في 17 أيلول 1978، إثر 12 يوماً من المفاوضات السرية. هذا الاتفاق، دفع كثيرين من مناصري القضية الفلسطينية الى البحث عن بديل لمصر التي كانت "قلب العروبة النابض" في زمن عبد الناصر. وبعد أشهر على اختفاء موسى الصدر وكامب ديفيد وغزو الجنوب، دفعت الثورة الإيرانية نظام الشاه الى الهاوية. مفكرون يساريون كثر هتفوا للخميني، قبل أن يتراجعوا. الثورة الإيرانية التي كانت ضد الشاه، انتهت إلى نظام ولاية الفقيه.أصبح شيعة لبنان جزءاً من قصة أكبر. في نيسان 1980، تم إعدام العالِم والمرجع الديني، محمد باقر الصدر، من قبل النظام العراقي، وهذا ما ساعد على تغذية الشعور الديني لدى شيعة لبنان. وعندما قرر نظام صدّام حسين القضاء على "حزب الدعوة"، لجأ معظم أعضاء "الدعوة" الى بيروت، ووجدوا في حركة "أمل" التى تشاركهم الانتماء الطائفي نفسه، حليفهم الطبيعي. كانت إيران قد شجعت أعضاء "الدعوة" السابقين الالتحاق بحركة أمل، والتغلغل فيها بغية تغيير توجهاتها ونشر رسالة ثورية للجميع. في أيلول 1980 بدأت الحرب العراقية-الإيرانية، مع ما حملته في ثناياها من انعكاسات على الهويات والتمزقات في المنطقة، ربما لم تنتهِ حتى اليوم. وقعت هذه الاحداث كلها، وكان السيد حسن في ريعان شبابه، وشكلت جزءاً من وعيه الإيديولوجي وتوجهه السياسي.يذكر الباحث يوسف آغا في كتابه "حزب الله: التاريخ الايديولوجي والسياسي (1978 – 2008)" أنه مع بداية العام 1982، بلغت العلاقة بين حركة "أمل" ومنظمة التحرير الفلسطينية مرحلة القطيعة. بعد اشتباكات عديدة، برزت الخلاصة السابقة القائمة على أنه لم يعد في الإمكان التوفيق بين مَصالح الشيعة ووجود الفدائيين الفلسطينيين، إذ كانت العمليات تنطلق من جنوب لبنان. وحصل الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982. ووقع الحدث الأساس الذي أدى إلى الانقسام داخل هيكلية "أمل" بين "معتدلين" أو وسطيين، وبين أصحاب مقاربة "إسلامية متشدّدة"، إذ قرر قائد حركة "أمل" نبيه بري، المشاركة في الحكومة اللبنانية عبر الالتحاق بلجنة الإنقاذ الوطني التي شكّلها رئيس الجمهورية الياس سركيس في منتصف حزيران 1982، لمعالجة قضية الاحتلال الاسرائيلي للبنان وحصاره بيروت. بالنسبة للعديد من أعضاء "أمل" المتشددين الذين اتبعوا عقائد الخميني وحزب الدعوة، تعارضَت مشاركة بري مع الخط الذي يرون من الصواب اعتماده، كما اعتُبر تصرفه "غير إسلامي".
اعتراضاً على ذلك، انتقل بعض كوادر "أمل"، وبينهم السيد حسن، إلى مرحلة تأسيس "حزب الله". خلال الاجتياح الاسرائيلي، استطاع الخميني إرسال حرسه الجمهوري(باسدران) لتدريب التحمسين لتصدير الثورة الإسلامية، ولم يتردّد الإيرانيون في نيتهم الدفاع عن لبنان ضد الإسرائيليين. قال رئيس البرلمان الإيراني في ذلك الوقت، هاشمي رفسنجاني، إن الطريق إلى القدس تمرّ من كربلاء ولبنان. سمحت سوريا في ظل قيادة حافظ الأسد، بنشر حوالي 1500 عنصر من الحرس الثوري، في سهل البقاع، في حزيران 1982. فكان الحرس الثوري في المكان والوقت المناسبين لتزويد حزب الله بالدعم العسكري والمادي اللازم. وهكذا، اضطلعت إيران بدور مهم في نشوء حزب الله، فدعمت تطوره. في العام 1982 أيضاً، كتب أعضاء حزب الله المؤسسون (وهم تسعة كان السيد حسن نصرالله بينهم)، رسالة داخلية بعنوان "رسالة التسعة" التي أشارت إلى أبعاد عمل حزب الله وعملياته، مشددين على هوية المقاومة كحركة جهاد إسلامي "يركز نشوؤها على مزيج إيديولوجي واجتماعي وسياسي وإقتصادي وفي إطار لبناني عربي وإسلامي خاص". ويقول السيد نصرالله، إن من الأسباب المباشرة لبروز حزب الله، "الاجتياح الصهيوني" للبنان، والذي أدى إلى إحتلال عسكري للبلاد من الحدود الجنوبية حتى بيروت، وانهيار كافة أشكال المقاومة في وجه إسرائيل، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان...يقول نصرالله: "حينما تأسس حزب الله كنت في الثانية والعشرين من عمري، وكنت عضواً في قوة باسق المقاوِمة، وفي وقت لاحق أصبحتُ مديراً للحزب في منطقة بعلبك. بعد ذلك أصبحت مدير الحزب لمنطقة البقاع بأسرها...".