كما في آخر في أفلامه القصيرة "إجرين مارادونا" (2019)، يعود المخرج الفلسطيني فراس خوري في أول أفلامه الطويلة، "علم" (2022) ليتناول عوالم غير البالغين. وإن كان بطلا فيمله السابق، طفلين فلسطينيين في رحلة للبحث عن ملصق أخير في ألبوم لاعبي منتخبات كأس العالم، فإن فيلمه الأحدث يقفز على المسطرة العمرية إلى الأمام، نحو سن المراهقة. الشخصية الرئيسية، تامر، طالب في الصف الأخير للمدرسة الثانوية، تشغله هو وأصدقاؤه ما يشغل تلك المرحلة العمرية، التدخين والمخدرات والفتيات وكذلك اجتياز الامتحانات النهائية.الحوارات بين مراهقي الفيلم طبيعية ومتهكمة ومبتذلة عمداً، وتثير الابتسام بشكل متواصل، وبالقدر نفسه من الخفة تتحرك الكاميرا مع تامر الهادئ والمنطوي في مشاهد معتنى بترتيبها جمالياً بما يساوي الجهد المبذول في منحها معاني وإحالات ذات بُعد رمزي. مع وصول الطالبة الجديدة، ميساء، إلى المدرسة، يحاول تامر إثارة إعجابها، ما يقوده إلى سلسلة من الأحداث تنتهي بتحول جذري في حياته. بحكم ذلك الخط السردي، يبدو واضحاً إننا أمام "فيلم بلوغ" بالحبكة والعناصر التقليدية لذلك الصنف السينمائي، وبالأخص على المثال الأكثر رواجاً لأفلام المراهقين/ أفلام المدارس الثانوية الأميركية. كان ذلك سيكون صحيحاً، لولا أن السياق استثنائي، أي أن الأحداث تدور في بلدة عربية داخل إسرائيل.
تلعب أفلام البلوغ دوراً جوهرياً في تأطير الذاكرة الجماعية وتحديد الهويات وترسيخها. ولعل التركيز على المدرسة الثانوية في ذلك الصنف السينمائي يعود إلى كونها الموقع المركزي لعمليات التشكيل الهوياتية بشكل مؤسسي. أيضاً تتميز أفلام البلوغ في معظمها بحس نوستالجي، ويظهر ذلك بوضوح بصرياً مع تامر في بيت جده، حيث الديكورات القديمة وشرائط الكاسيت وألعاب الأتاري. إلا أن تلك النوستاليجيا تمثل بعداً واحداً من الذاكرة. ففي المدرسة، نشاهد الطلاب الفلسطينيين في صفوفهم يدرسون التاريخ بحسب سرديته الإسرائيلية، ونستمع إلى شذرات من درس عن النكبة يلقيه مدرّس، هو نفسه فلسطيني، تحت عنوان "حرب الاستقلال". لكن بقدر ما تكون المدرسة موقعاً للإملاء والتلقين، تكون مساحة للتمرّد.ينشغل مخرج الفيلم، بتيمة متكررة في أعماله تتعلق بالعلامات الرمزية للاعتراف السياسي وللهوية الوطنية. على سبيل المثال، في فيلم "إجرين مارادونا"، يكون ألبوم لاعبي منتخبات كأس العالم كتالوغاً مصغراً لخريطة العالم السياسية مبوباً بحسب تصنيف الدولة الوطنية، وبالمثل فإن زي فريق البرازيل الذي يرتديه الطفلان في الفيلم، هو وسم للتمثيل الرسمي لبلد بعينه وفي الوقت نفسه، بيان على انتماء عابر للحدود الوطنية ومتجاوز لذلك البلد. في المشهد الأول من "علم"، تمر الكاميرا بشكل عابر على جدول لأعلام دول العالم معلق على حائط في ممر بالمدرسة، ومن دون الحاجة لتوقف الكاميرا أمام الجدول لتأمله، يمكننا التخمين أن الجدول لا يضم علماً لفلسطين.مع اقتراب ذكرى النكبة، ينضم تامر إلى زملائه في التخطيط لـ"عملية" تهدف لإنزال العلم الإسرائيلي من فوق مبنى المدرسة وتعليق العلم الفلسطيني بدلاً منه. تتضمن أفلام البلوغ بالتعريف شداً وجذبا جيلياً، تسليم من جيل إلى آخر وصدامات ومصالحات. نرى في "علم" ثلاثة أجيال، بالإضافة إلى جيل المراهقين اللامبالي والمتمرد في آن، فهناك جيل الآباء ممثلاً في إدارة المدرسة وفي شخصية والد تامر الذي ينهره عن السياسة، ويظهر هذا الجيل في معظمه خانعاً ومتواطئاً، باستثناء عمٍّ فقد عقله في السجون الإسرائيلية. أما جيل الأجداد الغائب فلا نعرف عنه سوى حكايات التهجير وكوب من ميراث الجد يعزف عند تحريكه موسيقى نشيد الأممية، وكأن ما بقي من هذا الجيل هو خليط من هزائم وطوباوية حسنة النية باتت مجرد مادة تذكارية.على خلاف فيلم مدرسة ثانوية هوليوودي تقليدي، قد ينتهي بفوز فريق كرة السلة ببطولة محلية أو بتغلب طالب مغلوب على أمره على مجموعة من المتنمرين، يسير "علم" نحو ذروة مقلوبة، حين تهوي المشاغبات خفيفة الظل فجأة إلى قاع تراجيديا مفجعة، وذلك بعد فشل عملية رفع العلم بشكل مُخزٍ. لا انتصارات في الفيلم، بل انزياح في وعي أبطاله، وحكمة موجزة من مراهق إلى آخر فحواها أن رفع العلَم هو بداية النضال، أما ذروته فتتحقق حين نستطيع أن نحرقه. ويقدم لنا المشهد النهائي أملاً بميلاد طفل جديد في العائلة، وباب مشفى ينفتح إلى أفق مفتوح.