2025- 08 - 02   |   بحث في الموقع  
logo تضرر عدد من السيارات.. بسبب رصاص الابتهاج logo افتتاحية “الأنباء”: عين العالم على جلسة الحكومة الثلاثاء .. فرصة أخيرة أم بداية الخلاص؟؟ logo الكورة.. العثور على جثة امرأة داخل منزلها logo مؤتمر نيويورك وسراب الدولة الفلسطينية: رفض «إسرائيلي» وصلف أميركي وشلل عربي! logo أسرار الصحف logo عناوين الصحف logo مانشيت “الديار”: جهد رئاسي للوصول الى صيغة توافقيّة لحصريّة السلاح… وإلّا المجهول؟ logo من الإنكار إلى الاصطدام: السلطة تواجه لحظة الحقيقة!
"جُوفِيّات" السويداء..ماذا تقول أهازيج المحتجّين؟
2023-09-05 19:27:10

"سوريا بلا حزب البعث غير... صاح الصايح وطَبّ الأسد خوف
وين رجالك أُسُود الشليّة (القليل الباقي من المال).. ورجال السويدا ما تعرف الخوف"هذه "جوفية" جديدة في السويداء التي ترفع الصوت منذ أسابيع وبوضوح، ضد النظام وشخص رئيسه، وضد سياساته كافة إن كان يمكن إطلاق تسمية السياسات على التخبّط والقمع والقتل والتعذيب والاعتقال، سياسة انهيار الدولة وواجباتها والليرة السورية، وبيع مقدّرات البلاد وتحويلها مصنعاً للكبتاغون واقتصاده وعصاباته..جوفية جديدة، تضاف إلى ما نُظِم وغُنِّي وأَطرَب فألهَب الحماسات على امتداد قرون هي عُمر هذه الجماعة في أرض الجبل الساحرة والقاسية، الضامّة والغنية والعصيّة، البُركانية أليفة الحجارة السّود. فهذا الغناء الجماعي الهادر ليس أكثر منه ما يختزن روح القبيلة التي تعضد بقاء هؤلاء الناس في مكانهم هذا منذ أواخر القرن السابع عشر، ومعاندتهم لتحديات الجغرافيا والبيئة، كما شتى الاحتلالات والعلاقات المتغيرة مع جيران، بعضهم عدو وبعضهم حليف أو أمسى كذلك. هذا الغناء الهادر تُضاف اليوم إليه أبيات، أو يُستعاد كما هو من أرشيف الأجداد، أو يُعدَّل في سياق يُصنع الآن بالحناجر والرقص والحداء في الساحات، كما في الشبكات الاجتماعية. هذه نور زين الدين تغني مستبدلةً مُفردَة "جندي" بـ"طالب"، و"عيون أم الجدايل" بـ"سوريا أم الأصايل" و"يا زينة" بـ"يا سويدا":"حنا يومن لافينا...تضرب فينا المثايلوالمزاهر بيدينا...لسوريا أمّ الأصايلما نتخلى يا سويدا...بالذهب ما نبادلهذا منّا يمينا... طالب فلاح وعاملخسا من قال عيشتنا ذليلة... للكرامة ما نرضى بديلا"
وفي الفيديو المسجل مؤخراً لكلمة شيخ عقل الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، كان وفد زائريه ومستمعيه "يَنتَخون" أمامه، أي يعبّرون عن نخوتهم. سكبوا دماءهم، رمزياً، أمامه، وعلى أرضية مضافته. "خرفان مسمّنة نحن"، قالوا، إيماناً منهم بالقضية التي ما عاد ممكناً إلا أن تكون قضيتهم. "تربة وطننا ما منبيعا بالذهب" (في الفيديو أدناه من الدقيقة 1:50 إلى 2:40)، بهذه الجوفية صاحوا وانتشوا، وصفّوا صفوف رقصتهم ليركع بعضهم فيُشبع الأرض لسعاً بضربات كفّه، وذلك فيما الهجري يؤكد على سِلمية الحراك، على أن كل نقطة دم في عروق أبناء الجبل غالية، وعلى ضرورة "تعليم الناس الأدب" من خلال إعطاء أمثولة بطريقة الاحتجاج السلمي في الساحات لأن "الشر لا ينام" ويحيك الخطط، فيما ناس الجبل يدخلون بيوتهم ليلاً وينامون ملء جفونهم ثم يعاودون الخروج في النهار وفي الضوء ليجاهروا بما تكتنفه ضمائرهم وبالحق، كما قال.
لا تناقض هنا، بالضرورة. أن يُقسم الشبان بدمائهم، فيما يحتكمون لممارسات السِّلمِية. فهُم، بجوفياتهم، يفرحون ويعتزون، يقاتلون ويحتمون، والآن يعبّرون ويحتجّون بعد طول كبت. بجوفياتهم يعيشون ويقولون سخطهم ويدوّنون تاريخهم وحاضرهم ويستشرفون المستقبل. الجوفية أغنية كل شيء، الناس هم الذين يسبغون على المناسبة وجوفيتها معناها. وإن تغيّر المعنى، فالحماسة واحدة، فكيف مع حرية طال انتظارها؟كلمة "جوفية"، مصدرها "الجوف"، وهي منطقة في شبه الجزيرة العربية يحدّها الأردن من جهة الشمال الغربي، ومن الجنوب منطقة حائل وتبوك. وكان لأهالي منطقة الجوف علاقات تجارية ورعوية مع سكان جبل العرب، فانتقل هذا النموذج الفني إلى الجبل، كما انتقل إلى سهل حوران والبادية الأردنية وعُرفَ بالاسم ذاته، فيما يُعرف في الجزيرة العربية بشكلٍ عام بإسم "العَرْضَة".
وفي بحثه الشامل الذي يستعد لنشره في كتاب عن الشعر العامي في جبل العرب، يقول الشاعر الشعبي ابن بلدة الغارية، حازم النجم، أنه مع انتقال الجوفية إلى جبل العرب تغيّر بعض من معطياتها الفنيّة، لافتاً إلى أنها "لعبت دور الوعاء الذي وثّق الكثير من الأحداث التاريخية والأسماء التي غيّبها طوفان الزمن، وهذه الأسماء تنوّعت ما بين قادة وجنود أبطال وحتى نساء كان لهنَّ دور مميز في إثارة الحماس أو المشاركة في المعارك"، مضيفاً أن الجوفيات وثّقت أسماء هؤلاء النسوة في صيغة الاعتزاز أو العزوة، كما تسميها العامة، لتصبح أسماؤهن لقب قبيلة أو عائلة أو أفراد، فيُقال: "أخو نوضة" وهي عزوة مسلط الرّعُوْجي أحد فرسان قبيلة العمارات، أو "أخو سميّة" وهي عزوة سلطان باشا الأطرش، أو "أخوة شيخة" وهي عزوة آل عامر في الجبل. ومثال ذلك: بيت من جوفية لإسماعيل العبد الله في مدح أحد شيوخ الرولة: "أخو عذرا يا صليف العيالي/ يا زَبون مْدَهّنات الجديلة" (صليف العيالي: الفتى الصلب الشديد، زَبون: بفتح أولها تعني المُدافع الذي يذود عن الحمى، مدهّنات الجديلة: النساء اللواتي يُعطّرنَ جدائلهن). وأيضاً بيت من جوفية لثاني عرابي عن سلطان باشا الأطرش، ومعركة المزرعة الشهيرة: "أخو سْميّة قايد الكِلّ/ بالمزرعة عِلقت حروبه".ويشرح النجم أن "الجوفية كنموذج غنائي جماعي، لها شكلها وأسلوبها، حيث تعتمد على الغناء المتناوَب عليه من قبل مجموعة من الرجال، يشكّلون حلقة دائرية، تبدأ قِلة منهم بغناء قسيم من بيت الشعر المطلوب كأن يقولوا مثلاً: هيه يا اللي راكبين على السلايل، فيردد باقي الرجال هذا القسيم على اللحن ذاته، ثم ينتقلون إلى القسيم الثاني: فوق ضمّر يمّ طربا ناحرينا.. وتستمر هذه العملية حتى آخر القصيدة". ويشرح النجم أن الحركة الجماعية تكون متوافقة من جميع المشاركين في الحلقة، وهي عبارة عن انحناءة بسيطة وانثناء في الركبتين، وقد يصل الحماس بالبعض إلى ملامسة الأرض بركبتيه، وترافق هذه الحركة صفقة الأكف التي تكون موحدة، مع حركات فردية تزيد الجموع حماسة. أما "الحاشية"، فهي عندما يؤدي شخصان رقصة منفصلة داخل حلقة الجوفية، فيمسكهما أحد الرجال كإسقاط لعملية الأسر، ويُجلسهما على الأرض ويضع يديه عليهما، وهنا تنتقل الجوفية إلى نموذج آخر بقصيدةٍ ولحنٍ مخالف لألحانها المعروفة، فتغني مجموعة من رجال الحلقة أبياتاً تمثّل صيغة دفع الفِديَة لآسر الحاشية كي يطلق سراحها، وهو بدوره يرفض كل المغريات المطروحة من خلال أبيات "السحجة"، إلى أن يقبل في نهاية المطاف عند ذكر اسم الله...وكم من أَسْرٍ وفِدية شهدهما الجبل خلال السنوات الماضية تحت حكم المليشيات المحلية المدعومة من مختلف الأجهزة الأمنية التابعة للنظام وسواه. ما كان سِمة تاريخ مضى، تجدد، وتجددت "الفزعة" ضده، ولا بد أن تتجدد الجوفيات أيضاً... تماماً مثلما تحوّلت لغة هذا الفولكلور في معظمها، من الصيغة اللبنانية التي أتي بها أوائل السكان قبل أكثر من 300 عام، أو القروية المحلية، "إلى الصيغة البدوية وهي لغة المحيط الذي يضم العدو والصديق في لوحته الجغرافية"، بحسب النجم الذي يقول إن الجوفية تُعد أحد أركان دفاع الناس في جبل الدروز عن الوجود، "فهذه الجماعات فُرِضت عليها حالة التأهّب، وكانت ضمن محيطها الجديد معرضة للخطر بشكلٍ دائم... واستطاعت هذه الجماعات أن تأخذ لغة العدو لتحاربه بها، وهذا الأمر لم يكن وقفاً على محاربة العدو بل كان أيضاً وسيلة للتقرب من بعض عناصر هذا المحيط وبالسلاح اللغوي ذاته".
بالجوفيات، اليوم، وكما نرى في الفيديوهات، يستقبل أهل قرية وفدَ مظاهرة من قرية ثانية، فالوقفات والهتافات تتنقل في البلدات والنواحي، كل يوم في مكان. إنه مظهر الجهوزية الدائمة ولُحمة القبيلة، لكنه أيضاً مظهر فرح واحتفال... هذه المرة الاحتفال بكَسر الصمت ولَيّ الخوف وتحرير السرائر، قول المُفكَّر فيه كما هو.أما الجذر التاريخي لهذا التلاقي بالأهازيج والتنظيم "الأوركسترالي"، فيعود إلى تقاليد الأعراس. ويشرح الشاعر حازم النجم قائلاً أن من "طقوس الجوفية وآدابها أنه في مناسبات الفرح التي تُدعى إليها القرى، تكثر الجوفيات أثناء قدوم الوفود المشاركة، وما يثير الدهشة في هذه الجموع التي تهزج، هو التنظيمُ العفوي الذي أصبحَ عادةً متبّعة، فالجماعة التي تصل أولاً تدخل المناسبة هازجةً بجوفية، ويستقبلها أصحاب المناسبة بالترحيب والرد على الجوفية ذاتها وينتظم الجميع في حلقة، وعندما يأتي وفد آخر يهزج بجوفية أخرى، فتُنهي الجماعة الأولى جوفيتها فوراً وتبدأ بالرد على الجوفية القادمة، إلى أن يندمج الوفدان، وهكذا حتى تتكامل الوفود المدعوة خلال فترة وجيزة، ثم تبدأ المناسبة بكامل فولكلورها المتنوّع".هنا مجتمع، في أفراحه وأتراحه، يغني قارعاً طبول الحرب، ليس حبّاً في القتال كما يقال عن "الفن للفن"، بل بالعكس. فالمجموعة الأقلية تسعى لحِفظ النوع بالمعنى الدارويني للكلمة، ولا تهدر حيوات أبنائها هكذا كيفما اتفق. لكن صيحات المعارك غذاء هذه الأرواح ففي هذا المكان، منشّطات الهِمَم، شاحذات أنصال الاعتزاز والنبالة التي، إن لم تُوجد، تخلقها خلقاً.. في "ساحة السير/الكرامة" كما في ساحات التأبين والاحتفالات، والمعارك إن لم يكن هناك بُدٌّ من معارك.
ومن الجوفيات التي جمعها الشاعر والباحث حازم النجم، وبعضها يتردد في ساحات السويداء وقُراها اليوم، جوفية للشاعر ثاني عرابي، قيلت قبيل معركة الكفر الشهيرة، في تموز 1925، وأثناء توافد بيارق الثوار إلى منطقة "العَيّن" التي كانت مكان التعبئة لخوض معركة الكفر آنذاك:يا راكب اللي لو مَشَت ما تندَرَك تِحِثّ حاله وْ لا تحتاج ســوقهامورادها عُرمان و عا جال البُرَك خيّالها ســبع المْـزَمْجِر فــوقهاجُوك الزغابى يا رينو دوّر هلك في مرجة العيّن انتصب سوقهاصربة مَلَح يوم اللزايم تذهِلَك سَـــلّ السيوف تْقول لَمْع بروقها(ما تندرَك: لا يمكن إدراكها لسرعتها الفائقة. تحث حاله ولا تحتاج سوقها: إشارة إلى أصالتها وطواعيتها العفوية. مورادها: موردها أي مكان وردها الماء، والمكان المُراد إيصال الرسالة إليه هو قرية عرمان. الزغابى: صفة لازمت فرسان بلدة صلخد تشبيهاً لهم بالأبطال الزغبيين في تغريبة بني هلال. رينو: Renaud الكابتن الفرنسي وكيل الكابتن كاربييه Carbillet حاكم الجبل آنذاك. دوّر هَلك: أي ارحل إلى أهلك. مرجة العيِّن : بتشديد الياء هي مكان اجتماع الثوار. صربة مَلَ: رجال قرية مَلَح).وجوفية لفارس حسن مهداة إلى سلطان الأطرش:يا باشا واظهَر سَعَدنا مِن طَبِّ عِلمَك علينابالسما يقصف رعدنا بْحُمر البيارق مشيناالجيـــش تاه بْعَــدَدنا وحول القـريّا حَـدَينا(مِن طبّ عِلمك علينا: أي عندما وصل نداؤك أو خبرك إلينا. حول القريّا حدينا: أي قمنا بغناء الحداء حول بلدة القريّا).الماضي لا يموت هنا، ولا يرحل في النهاية إلا مَن تطلُب هذه الأصوات المُحرَّرة رحيله. الماضي لا يفنى، لكنه يُحدَّث بما حَدَت به حناجر سوريين في أصقاع البلاد، ويُجلَب إلى السويداء بفرح، وعزوة نساء ورجال، وحميّة. يُغنّى فيما يُسقط ناس الجبل تماثيل وصور أسدية ويُغلقون مقرات بعثية. تُستعاد من أنحاء الثورة "سوريا لنا/ وما هي لبيت الأسد" و"عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد"، ثم يعود أهل السويداء إلى تراثهم الذي لا ينضب: "راياتنا فوق الجبال الشُمِّ منصوبَة/ وخيولنا تسابق الريح بِيوم الطْرادِ"...


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top