قناعة أولى: لحظة 17 تشرين هي لحظة كسر. لحظة إشهار علني لقرار مغادرة مئة عام من نظام الإنتماءات الأولية المحتضر.هي كذلك إنفجار عشوائي لتراكم أوصل مئات ألاف اللبنانيين إلى نقطة اللاعودة والإقدام على إشهار قراراهم، أيضاً بشكل عشوائي، منسجم مع طبيعة الإنفجار، ومع التمايزات في إنعكاسات حالات التراكم عند كل فرد منهم ومجموعة من مجموعاتهم وساحة من ساحاتهم التي امتدت على كامل الجغرافيا اللبنانية، تجسيداً لتحوّل في الجوهر داخل الإجتماع السياسي اللبناني.
أشدّد على تعبيرَي "مغادرة" و"تحوّل في الجوهر" توازياً مع إعتقاد مغاير يعتبر أن إنتفاضة 17 تشرين كانت ظرفية وانتهت بانتفاء ظروف حصولها.
قناعة ثانية : لا عودة إلى الوراء في هذا التحوّل، حتى ولو أن "الجديد لم يولد بعد". نحن نعيش اليوم في مرحلة الإنتقال من القديم إلى الجديد. ولا قدرة لنا الآن على إدراك تشظياتها ومداها الزمني ومآلاتها... ما وجب علينا إدراكه هو ضرورة العمل في سبيل الخروج منها بأقل قدر من الخسائر وبأوضح مضمون لطبيعة التغيير المأمول، ولا يتم ذلك من دون بناء مرجعية سياسية تحمل هذه الأهداف وتمثل التائقين إلى تحقيقها.
قناعة ثالثة، تأسيساً على ما سبق : الإنتخابات النيابية التي حصلت بعد ثلاث سنوات على إنتفاضة 17 تشرين أثبتت أن التحوّل أعمق من أن يكون عابراً أو ظرفياً. ليس لأنها أنتجت نواباً من طبيعة سياسية نقيضة لطبيعة النظام الطائفي التي أنتجت من ناحيتها الأكثرية الساحقة من أعضاء البرلمان، بل بالأخص لأنها أدت إلى تظهير قوة سياسية كبرى كامنة في المجتمع اللبناني ناهزت بصيغتها المعلنة الثلاثمئة وخمسين ألف مواطن يحق لهم الإقتراع وقرروا ان يقترعوا لصالح المرشحين الواضحين بخيارهم في مواجهة القديم المتهالك وقواه.
إنه الرقم الأكثر تعبيراً : 350 ألف مواطن وليس 13 نائباً. ولا يعني هذا الكلام التقليل من شأن النواب المقصودين، إنما التدليل على حجم قوة التغيير داخل المجتمع اللبناني، أي على حجم التحوّل الحاصل داخل هذا المجتمع. جميع هؤلاء، أياً كان المرشح الذي انتخبوه، غادروا القديم المهيمن منذ مئة عام، أي النظام السياسي الذي وزعهم مللاً ومذاهب، ومنعهم من ان يكونوا أفراداً احراراً في إنتماءاتهم وخياراتهم، وقرروا بوعيهم الجديد أن يقفوا بوجهه.
قناعة رابعة، تأسيساً على الثالثة : المجموعات المناضلة والصادقة في قناعاتها التي تكوّنت في مرحلة بروز ظواهر التحوّل الذي أشير إليه، أي مرحلة الإنتفاضة بما هي تراكم ممّهد ل17 تشرين، وبما هي تجسيد لهذا التراكم في لحظة 17 تشرين وقد إمتدّ شهوراً معدودة بأشكاله المباشرة، واستمر بعدها ولا يزال بأشكاله غير المباشرة، هذه المجموعات لم تعد طبيعة وظيفتها مؤاتية لشروط المرحلة الراهنة من مسارات التحوّل ومتطلباتها. لا اريد أن أبدو كمن يصدر أحكاماً. إنها دعوة للتفكير. هل أن ما كان ضرورياً إنشاؤه وتنظيمه في لحظة 17 تشرين لا يزال صالحاً كأداة نضال اليوم ؟
تحتاج كتلة الثلاثمئة وخمسين ألف مواطن، ومن يضاف إليهم ممن لم يقترعوا أو لم يصلوا إلى سن الإنتخاب المجحف، إلى ان ينظر إليها على انها كتلة واحدة تسعى إلى الإنتقال إلى واقع سياسي إجتماعي مغاير وحديث. كتلة واحدة تستند إلى مرجعية سياسية واحدة، وليس إلى خمسين مجموعة تتنازعها وتشوّش وعيها وتدفعها إلى اليأس من إمكانية تحقيق أحلامها.
لا أعتقد ان أحداً يعتبر الهدف سهلاً. لكن الموت البطيء الذي نعانيه لا يحتمل أنصاف حلول.