ستحفل قاعة مجلس النوّاب اليوم وغدًا بسلسلة من الخطابات الشعبويّة، التي ستطلقها مختلف الكتل النيابيّة لغسل أيديها من الموازنة، وما تحتوي عليه من رسوم وضرائب جديدة وزيادة في سعر المعتمد لاستيفائها. فالتفنن في المزايدات وتقاذف المسؤوليّات، من دون الدفع باتجاه الحلول الفعليّة البديلة، بات القاعدة الأساس في تعامل جميع أقطاب الحكم مع الملفّات الاقتصاديّة الداهمة، على النحو الذي شهده اللبنانيون في مناقشات مشروع قانون الكابيتال كونترول وملف تصحيح تعرفة الكهرباء وغيرها.
لكن من الناحية العمليّة، يدرك الجميع أن الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة التي تزايد في انتقاد مشروع قانون الموازنة اليوم، لعبت دورًا أساسيًا في صياغتها على هذا النحو وبهذه المقاربة بالتحديد، سواء في مجلس الوزراء، أو عبر تعديلات لجنة المال والموازنة. كما يدرك الجميع أن عدم مقاربة الموازنة على النحو الذي يحتاجه الحل المالي الشامل، ارتبط أساسًا بمصالح عميقة، تستفيد من بنية النموذج الضريبي الراهن وأولويّات الإنفاق الحاليّة. وفي الخلاصة، من المرجّح أن يتم تمرير مشروع قانون الموازنة المطروح، حتّى بعد قذفه بنبال المزايدات الفارغة داخل المجلس، على قاعدة "السيّء أفضل من الأسوأ". وإذا سقط مشروع القانون بقدرة قادر، فسيكون طرح الموازنة بهذا الشكل، ومن ثم إسقاطها، قد مدد السير بقاعدة الإثني عشريّة للأشهر الثلاثة المتبقية من هذا العام.الموازنة الانكامشيّةفي الأصل، يفترض أن تتكامل الموازنة مع رؤية الدولة الاقتصاديّة، بل ويفترض أن تحدد أبواب الإنفاق وشكل النظام الضريبي والإطار العام لتدخّل الدولة في السوق. أمّا في حالات الانهيار الشامل، فتصبح المسألة أكثر حساسيّة، إذ تتصل الموازنة هنا بأكثر أدوار الدولة حساسيّة في قيادة خطّة الإنقاذ الاقتصاديّة، ومنها تلك التي تُعنى بإنهاض القطاعات المنتجة وترميم البنية التحتيّة وإعادة تصحيح أسعار الصرف المعتمدة. وبصورة أوضح: تفرض حالات الانهيار تدخّلات أوسع للدولة في السوق، وتغييرات جذريّة في مقاربة الدولة لماليّتها العامّة. وهذا تحديدًا ما تم الاتفاق عليه في المحادثات مع صندوق النقد، ما انعكس في أحد بنود التفاهم المبدئي مع الصندوق الذي نصّ على إعادة هيكلة الميزانيّة العامّة.
لم تولد خطّة الإنقاذ، فجاء مشروع قانون الموازنة الحالي بمقاربة محاسبيّة بحتة، لم تستهدف سوى موازنة أرقام النفقات والإيرادات للوصول إلى معدّل عجز ما استهدفته الحكومة. تشرح هذه المقاربة كل شيء في الموازنة: من قيمة النفقات الهزيلة التي اقتصرت على نحو 1.2 مليار دولار عند احتسابها بسعر الصرف الفعلي، إلى اقتصار النفقات على ثلاثة بنود، هي الرواتب والفوائد ودعم مؤسسة كهرباء لبنان، وعدم التطرّق إلى حاجات البنية التحتيّة الاستثماريّة. تشرح هذه المقاربة سبب عدم إعادة النظر بأسس النظام الضريبي، وسبب اتجاه الموازنة إلى زيادة بعض الضرائب غير المباشرة سهلة التحصيل، بما يلقي كلفة زيادة الإيرادات على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. أما أهم ما في الموضوع، فهو أن هذه المقاربة تشرح كيف تم التوصّل إلى أسعار الصرف العبثيّة المعتمدة في الموازنة، بعيدًا عن أي رؤية لتوحيد أسعار الصرف.
إنها موازنة إنكامشيّة إذًا. وموازنة من هذا النوع، كفيلة بخلق ركود قاسٍ في اقتصاد طبيعي، فكيف الحال في اقتصاد منهار يبحث عن تدخّل رسمي وازن يدفع باتجاه الدخول في مسار التصحيح المالي. من هنا، تصبح الموازنة مجرّد استكمال لكل مسارات تكريس الانهيار المتعمّد، والتي تمتد من طريقة التعامل مع ملفّات تعديل السريّة المصرفيّة والكابيتال كونترول، إلى المراوحة في مسارات إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوحيد أسعار الصرف، وصولًا إلى مسار إعادة هيكلة الدين العام المجمّد حاليًّا. تكريس فوضى أسعار الصرففي الأصل، لم يتم تحديد سعر صرف استيفاء الدولار الجمركي في الحكومة، عند حدود 20,000 ليرة، إلا عبر مسار من التقاذف العبثي للآراء والأفكار بين الوزراء المعنيين. ثم استكملت لجنة المال والموازنة المسار نفسه، عبر طلب وضع سيناريوهين لسعر صرف الدولار الجمركي، عند حدود 12 ألف ليرة و14 ألف ليرة للدولار. بمعنى آخر، نحن أمام سعر صرف عشوائي، تم تحديده على قاعدة "هندسة" مستوى الإيرادات المستهدف في الموازنة، لا على قاعدة التكامل مع السياسة النقديّة ومسار توحيد أسعار الصرف.
في الموازنة نفسها، سيكون سعر الصرف هذا مجرّد سعر صرف إضافي آخر، إلى جانب أسعار صرف أخرى: سعر المنصّة لتقدير واردات قطاع الاتصالات، وسعر الصرف الرسمي القديم للتصريح عن ميزانيّة مصرف لبنان، وسعر صرف مقدّر بـ32 ألف ليرة للدولار لرصد النفقات، وغيره. وكل أسعار الصرف هذه، لم تستند إلا إلى هندسات محاسبيّة ومعادلات فوضويّة، أراد واضعوها استعمالها للوصول إلى توازن ما في بنود الموازنة. وهذه العمليّة بحد ذاتها، تخرج الموازنة من أي إطار تصحيحي فعلي، بل وتجعل منها مجرّد تكريس للتشوهات النقديّة القائمة اليوم.موازنة شكليّةفي كل الحالات، مجرّد طرح مشروع قانون الموازنة في منتصف شهر أيلول، يضعه في إطار المسار الشكلي غير الهادف، لكون الموازنة إذا تمّ إقرارها لن تكون صالحة كصك تشريعي إلّا لثلاثة أشهر من السنة. مع الإشارة إلى أنّ الموازنة كانت حاضرة عمليّاً منذ أشهر طويلة، إلا أنّ الإجماع السياسي قضى بإرجاء النظر فيها لتمرير الانتخابات النيابيّة في شهر أيّار الماضي، من دون الإقدام على أي خطوة غير شعبيّة قد تؤثّر على نتائج الانتخابات. وإرجاء الموازنة على هذا النحو، والتعامل مع الملف بهذه الخفّة، كان أولى الإشارات التي دلّت على عدم جديّة القوى السياسيّة المختلفة في مقاربة موضوع الموازنة. ومن ناحية الشكل أيضًا، تبرز ثغرة أخرى، تتمثّل في غياب أي قطع حساب مدقّق من ديوان المحاسبة، ما يفقد الموازنة أيضًا قيمتها من ناحية ضبط معايير الشفافيّة في التعامل مع ماليّة الدولة.
هكذا، سيكون اللبنانيون طوال ساعات اليوم والغد على موعد مع عراضات نيابيّة إعلاميّة، من خلال خطابات النوّاب التي سيتم بثّها على الهواء مباشرة. أما في المضمون، فلا يوجد حتّى اللحظة أي مسار تصحيحي فعلي يمكن الرهان عليه، أو التعويل عليه للمطالبة بموازنة تتكامل معه. وفي المضمون أيضًا، لا يوجد من بين قوى المنظومة السياسيّة من سعى بالفعل إلى التأسيس لمسار تصحيحي من هذا النوع، بمعزل عن العراضات الإعلاميّة التي سيقوم بها نوّاب هذه القوى.