في حديث أولي أدلت به للديلي ميل البريطانية، تقول أم هادي مطر، الشاب المعتدي على سلمان رشدي بالطعن، إن "ابنها تحوّل إلى متعصب ديني بعد عودته إلى أميركا من لبنان إثر زيارة دامت شهرًا في العام 2018". تتّضح لاحقًا معالم هذا التبرير المتزامن مع النأي بالنفس (المترافق مع محاولتها النأي بنفسها عن الحدث)، حين تضيف أنها أم عزباء عليها أن تعتني بتوأمين قاصرتين. وتختم حديثها بالقول: "نحن مصدومون وغاضبون، لكن علينا أن نتابع حياتنا من دونه".
استوقفني مليًا هذا التصريح المتعدّد التفسيرات. شعرتُ بالقلق قليلًا وتساءلتُ: ماذا لو تحوّل أبناء المغتربين، أولئك الذين يمضون عطلهم في مناطق البيئة الشيعية بلبنان، إلى "إرهابيين" يغتالون كُتّابًا وصحافيين، ويطبّقون أحكامًا ضدّ "مُرتدّين" أطلقها الخميني وأصدقاؤه في إيران ولبنان، ما قبل ولادة هؤلاء الشبان بكثير؟
أعادتني هذه العبارة إلى النقاش العلمي والبحثي الذي توسّع في فرنسا عقب هجومَي شارلي إيبدو والباتاكلان، والأبحاث الاجتماعية والسياسية والتاريخية والنفسية حول التطرّف وأشكال العنف الناجمة عنه، وكيفية حماية المجتمعات منه ومن حدوثه. أوصلني قلقي إلى البحث عن تعريف التطرف الباعث على العنف. فوقعتُ على المركز الكندي لمنع التطرف المؤدّي إلى العنف، والذي يعرّف العنف على النحو التالي: "هو عملية يتبنى من خلالها الناس نظام معتقدات متطرفة -بما في ذلك الرغبة في استخدام العنف أو تشجيعه أو تسهيله- من أجل تحقيق أيديولوجية أو مشروع سياسي أو قضية، كوسيلة للتحوّل الاجتماعي". ويتّفق الباحثون على تعدّد أسباب الانخراط في التطرّف، فيُنظَر إليه كعملية تغييرية مع الأخذ بالاعتبار أن البعض يكون أكثر استعدادًا للسقوط في خطر التطرّف بوجود أحداث وعوامل تحفيزية. فالتحول إلى التطرف هو رحلة تستغرق أشهرَ أو سنوات عدة، تحفزه مجموعة من العوامل الفردية والجماعية والاجتماعية والنفسية، قد تدخل فيها أزمة الهوية وقد تغذّيها شبكات التواصل الاجتماعي. وبالتالي، كيف يمكن التحول إلى التطرّف في شهر واحد، وفي زيارة واحدة للبنان؟الشباب والهويةأمام هذا السؤال، أتذكّر الباحث التونسي- الفرنسي في مجال علم النفس، فتحي بن سلامة، الذي يعتبر أن "العرض الجهادي يجذب الشبان الذين هم في محنة، بسبب عيوب أو أزمات عميقة في الهوية". وهو يلتقي في هذا التوصيف مع أوليفييه روا الباحث الفرنسي الشهير، الذي يتحدث عن التطرّف في فرنسا قائلًا: "تنهل داعش من مخزون من الشباب الفرنسيين المتطرّفين الذين، مهما حدث في الشرق الأوسط، فقد دخلوا بالفعل في انشقاق، ويبحثون عن سبب أو تسمية أو رواية عظيمة لوضع توقيعٍ لثورتهم الشخصية".أمّ خائفة تواجه العالمأتابع التساؤل في نفسي حول التصريح أعلاه: كيف لأم أن تتنصّل من نفسها ومن ابنها بهذه السهولة، وأن تعتقد أنه يمكن السقوط في التطرف بهذا الوقت القصير؟
لكن للأم أسبابها. فلنتخيّل كيف ستواجه، هي الأم لابنتين، مشاعر الخوف والشعور بالذنب وصعوبة مواجهة العالم بأكمله في جريمة إرهابية في حق كاتب شهير؟ وهي جريمة لها بعد عالمي وليس محليًا فقط على صعيد المدينة أو الولاية أو الولايات؟ إنها أم تواجه. فهي تواجه العالم بأجمعه، تواجه التحقيقات ونظرات المحيط وأسئلة الصحافيين، ومحاولة تجريدها من خصوصيتها في طريقة تربيتها ابنها. إنها أم تواجه. تدافع عن نفسها وعن حاضر ومستقبل ابنتيها القاصرتين، وتواجه قلبها، قلب أم، وهو، كما يقول أونوريه دو بلزاك: "هوّة عميقة ستجد المغفرة دائمًا في قاعها". وهي تواجه فقدانها ولدها. ولدها الذي ربّته كملاك، ولكنّه معذّب حسب قولها لقناة الجديد اللّبنانية، "المنبوذ من والده، ونتاج زواج مصلحة من أجل الحصول على الغرينكارد".في مواجهة الفاجعةإنها الأم المفجوعة التي تواجه الرأي العام المفجوع بمحاولة قتل كاتب، وتواجه رأي عام آخر يكتفي بالحقد ويختزل العالم بنظرته الأحادية التكفيرية. فتخرج أصواته الشيطانية لتهنّئ الفاعل على فعلته.
يقول جورج سالين، والد لولا التي قضت في هجمات الباتاكلان في كتاب "لم تَبق سوى الكلمات"، محاورًا فيه عز الدين عميمور، والد سامي، أحد المهاجمين الثلاثة الذين نفذوا الهجوم: "لا توجد تراتبيّة في الألم، ولا تفاضُلَ في الفجيعة، كلانا مفجوعٌ أمام هول الكارثة". ويضيف سالين: "لستُ مقتنعًا أنَّ أَلَمَ عائلات الضحايا أكبر، جوهريًا، من ألم عائلات الإرهابيّين. كلاهما يحمل فجيعَة الموت".