دخل لبنان مرحلة خطيرة من التعطيل والشلل، إثر إعلان معظم القضاة الإضراب المفتوح. وتؤكد مراجع قضائية عدة لـ"المدن" أن لا رجوع عنه "بعدما بلغ إذلالنا واستهدافنا مستوى لا يحتمل، وكان آخرها طلب رئيسي الحكومة والبرلمان من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بوقف صرف رواتبنا وفق سعر صرف 8 آلاف ليرة للدولار، لامتصاص غضب العاملين بالقطاع العام".
وبعد تأخر دفع رواتب العاملين بالقطاع العام حتى منتصف شهر آب، تفاجأ القضاة أنه وخلافًا لشهر تموز، صُرفت رواتبهم وفق سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات)، مع حسومات بلغت نحو مليون ليرة عن كل راتب كضريبة على الدخل. حرج الوزارة يكتفي وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري الخوري في حديث لـ"المدن" بالإشارة إلى أن الاجتماعات مستمرة لإيجاد مخرج لأزمة إضراب القضاة، التي ستسبب بشلل كامل بمرافق العدالة. ويقول: "أتفهم صرخة القضاة. لم ولن أتوقف عن بذل الجهود لتسوية مطالبهم المحقة، وحاليًا لدي اجتماعات مع بعض القضاة بحثًا عن حلول حتى نقرر ما نفعله".
بصورة مفاجئة، وضعها بعض القضاة بإطار "رد الفعل العفوي" وأصبح خيارًا لا بديل عنه، أعلن أكثر من 350 قاضياً (قابل للارتفاع) من أصل 560 قاضياً، يوم أمس الأربعاء، الإضراب المفتوح والتوقف عن العمل كليًا، بعد توقف المصرف المركزي عن تسديد رواتبهم وفق سعر صرف 8 آلاف ليرة. إضافة إلى رفضهم حل الحكومة بتحويل سلفة الخزينة بقيمة 35 مليار ليرة إلى صندوق التعاضد الخاص بهم لدى المركزي، "لأنها بالكاد تكفي لشهرين كرواتب، بظل حالة شبه الإفلاس بالصندوق الذي لم يعد يغطى القضاة مئة بالمئة طبيًا وتعليميًا"، وفق مصدر قضائي مطلع.
ولم يتبنَ مجلس القضاء الأعلى رسميًا إضراب القضاة، "لكننا نلقى دعمًا معنويًا من بعض أعضائه"، وفق المصدر، الذي يؤكد أن الإضراب هذه المرة استثنائي وسيشلّ مرفق العدالة بمختلف قصور العدل والمحاكم والمجالس. فقر القضاة؟ ويفيد المصدر القضائي أن وضع القضاة المادي هو الدافع الأساسي لهذا الإضراب، خصوصًا أنه ترافق مع ما يصفه بالحملة الممنهجة ضد الجسم القضائي، وتحديداً من قبل بعض أركان السلطة السياسية. ويقول: "يعيش القضاة أزمة معنوية غير مسبوقة، لأن التصويب عليهم بكل الاتجاهات، إلى أن رضخت السلطة للضغوط التي تطالب بعدم صرف رواتب القضاة على 8 آلاف، علمًا أنهم غير مشمولين بكل التحفيزات والمساعدات التي تعمل الحكومة على تقديمها لموظفي القطاع العام للعودة إلى عملهم".
ويتحدث بعض القضاة عن عجزهم في الوصول إلى مراكز عملهم، بسبب غلاء المحروقات، ولأن قصور العدل كأروقة الأشباح تفتقد للحد الأدنى من مقومات العمل من كهرباء وقرطاسية وغيرها. ويستغرب هؤلاء اتهامهم بقبول "هندسات مالية" من قبل حاكم المركزي رياض سلامة، "بعدما صار معظمنا بمصاف الفقراء، ويطلبون منا السهر على العدالة التي يجري تقويضها سياسيًا بكل السبل". السطوة السياسيةوفي بيان أمس، توجه القضاة المضربين إلى المسؤولين بالسلطة السياسية قائلين: "فلتجدوا حلولًا من دون حجج أو تبريرات، وموجب التعويض يقع على عاتقكم وحدكم. نحن القضاة لم يعد بمقدورنا الوصول إلى المحاكم المظلمة الموحشة كي نقوم بعملنا، فالحكم بالعدل يتطلب صفاءً ذهنيًا ومعنويًا أمعنتم في إفقادنا إياه".
ووصف الهجمة على القضاة بـ"حملات التضليل"، وتهدف برأيهم إلى ضرب هيبة القضاء والنيل من كرامة القضاة. وقال: "الحديث عن وعود وهندسات مالية ورشى عارٍ من الصحة، وإلا فلماذا التوقف عن العمل؟".
وذكر البيان أن راتب القاضي الأصيل الذي أمضى في الخدمة نحو 40 سنة لا يتجاوز 8 ملايين ليرة لبنانية فقط، خلافاً لكل ما يشاع.
وتشير معلومات "المدن" إلى أن القضاة يدرسون مختلف الخطوات التصعيدية كأداة ضغط لتسوية أوضاعهم المادية أولًا، والتوقف عن زجهم بالمقارنة بمختلف موظفي القطاع العام، طالما أن صندوقهم مستقل، وثمة اجتماع مرتقب قد يعقد الثلاثاء المقبل في مجلس القضاء الأعلى للبحث بتطورات وتداعيات الاضراب.
وللتذكير، فإن الشلل القضائي بدأ جزئيًا منذ امتناع الحكومة عن إصدار التشكيلات القضائية لحل أزمة الشغور بمحكمة التمييز التي سبق أن فقدت النصاب القانوني (5 من 10) بتقاعد أحد قضاتها. ومرسوم التشكيلات محتجز منذ أشهر لدى وزير المالية يوسف الخليل بعد توقيعه من وزير العدل، بذريعة أنه لا يراعي التوازن الطائفي. في حين يرى كثيرون أن تعليق التشكيلات تحول لأداة لمنع البت بالدعاوى المقدمة بحق المحقق العدلي بانفجار المرفأ القاضي طارق البيطار. وهذا شكل من أشكال السطوة السياسية على القضاء والإمعان بشله سواء عمل القضاة أو اضربوا.