2024- 05 - 07   |   بحث في الموقع  
logo “حزب الله” يشنّ عمليات مزدوجة على إسرائيل logo المرتضى استقبل مسؤول العلاقات الاعلامية في “حزب الله” logo مطر: ليكن 7 أيار محطة لحصر السلاح بيد الدولة logo نيويورك: تجمع مؤيد للفلسطينيين تزامناً مع حفلة "ميت غالا" logo تهديد غير مسبوق للأمن السيبراني قبيل أولمبياد باريس logo "مايكروسوفت" تقترح تدريب الجيش الأميركي بالذكاء الاصطناعي logo هيومن رايتس: الغارة التي استهدفت مسعفين في الهبارية “غير قانونية” logo "بشكل نهائي"... عدوان يدعو لوضع الإطار القانوني للوجود السوري
البحر الأبيض المتوسط .. الفتنة والقدر
2022-07-11 12:55:59

تاريخ المتوسط كان يفيض دائماً ليلقي بأحماله على الجغرافيا، التي برهنت عبر العصور والحضارات، أن هذا البحر يظل طريق التبادل بين الشرق والغرب. ستكون الذاكرة قصيرة، إذا لم تذهب أبعد من مقاربة ربط الضفتين بسلسلة من مشاريع التعاون، تنحصر في المياه والهجرة غير الشرعية والأمن والطرق...إلخ، لأن فتنة المتوسط الفعلية، تكمن في المنابع السرية التي تجري بين فلوبير والإدريسي.غوستاف فلوبير، الكاتب الفرنسي الشهير الذي سافر في المدن المتوسطية، من "سلامبو" الفينيقية على الشاطئ التونسي، حتى إسطنبول اليونانية الرومانية البيزنطية الإسلامية العثمانية، مروراً بالإسكندرية اليونانية والعربية، كان يعتبر المتوسط واقعاً ملموساً وأسطورياً في الوقت ذاته، تربطه به علاقة شخصية تماثل علاقته بفرنسا، حتى انه لم يتمكن من كتمان صرخته الشهيرة "المتوسط هو أنا"، لأن المتوسط بالنسبة إليه لا يمكن أن يكون تعبيراً جغرافياً، إذا لم يكن تصوراً تاريخياً.أما العرب فقد كانوا يؤمنون بأنه لا يمكن التعلم بما يكفي عن المتوسط، من دون معرفة الرياح التي تهب عليه، والاطلاع على الممرات وخطوط السير، ولهذا اخترعوا أول الأشرعة (المثلث)، الذي نقلته عنهم شعوب أخرى، وسمته عربياً، لكي تتجاوز المتوسط نحو بحار أخرى أبعد. وأثبتت محكيات السفر عبر البحار، أن الفضل في ارتياد المتوسط، يعود قبل كل شيء للعلماء والجغرافيين العرب، من أمثال الشريف الإدريسي (1100-1166)، الذي وضع "لوحة الترسيم" أو خريطة الأرض، بطلب من ملك صقلية روجر الثاني، الذي كان محباً للمعرفة. ويُجمع كافة الذين كتبوا تاريخ حوض المتوسط، على أن أول من وضع الخرائط على أسس منهجية هو هذا العلامة، الذي يعتبر أحد كبار الجغرافيين في التاريخ ومن مؤسسي علم الجغرافية، وهناك من الكتّاب الأوروبيين، من يذهب أبعد من ذلك ويعتبر أنه لولا الإدريسي لما اكتُشفت قارة أميركا. فمن المعروف أن الرحالة البرتغالي المعروف، فاسكو دي غاما، الذي اكتشف طريق الهند، إنما سار بهدي من خرائط الإدريسي، في دورته حول "رأس الرجاء الصالح"، بدلاً من اتباع طريق الحرير.حضارة المتوسط أولى البدايات في كل العصور. وهذا البحر الذي يعد أحد مراكز ثقل التاريخ، عرفه العرب قبل غيرهم من شعوب الضفة الأخرى، عرفوا أرسطو وبطليموس قبل الأوروبيين، لقد أثبتوا في مياهه أن في استطاعتهم هنا أن يقاسوا بالآخرين. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن تاريخ المتوسط بدأ مع التجارة الفينيقية والفكر اليوناني، واغتنى بالإضافات الكبيرة للعرب والمسلمين، والتي كان دافعها إنسانياً. ومع ذلك، فإن نسبة المخاوف والشكوك اليوم أعلى من نسبة الآمال. ورغم أن بعض الأوروبيين، خصوصاً الفرنسيين، حاولوا أن يجعلوا من المتوسط نقطة انطلاق جديدة، ومركزاً للفعل، فإن العرب يدركون إن التهميش الذي أصاب جغرافية العالم الإسلامي مر عبر تهميش المتوسط، وذلك في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، اللذين يشكلان مرحلة التأسيس لأوروبا الحديثة، ولكنهما يشكلان أيضاً مرحلة التأسيس للعلاقة غير المتكافئة مع العالم الإسلامي والشرق إجمالاً، بعدما تغيرت أسس السيطرة على الجغرافيا السياسية والاقتصادية في العالم وطرقها، وبدأ يضعف نبض المتوسط، لينتقل مركز الثقل إلى عالم المحيطات. وفي هذه الفترة أخذت المنطقة تشهد عمليات التداخل بين الفضاءات الحضارية والثقافية في المجال الجغرافي الحضاري، حيث بقيت الصدامات والحروب (الصليبية) في أبعادها العميقة، تتحكّم فيها مصالح الدول والتجارة والطرق ومصادر الثروة والتوترات الاجتماعية.منذ الروائي ووزير ثقافة الجنرال ديغول، اندريه مالرو، والمؤرخ جاك بيرك، كان الأوروبيون يتطلعون نحو الضفة الأخرى، يستبد بهم الحنين إلى الشمس والتين والزيتون الذي يرسم حدود المتوسط، ويسيل لعابهم لحجم الثروات الكامنة في المنطقة. يقود تفكيرهم الحس النهم الذي أرساه مؤرخ المتوسط فرناند بروديل (المتوسط والعالم المتوسطي): "في المتوسط كل شيء كان عرضة للتبادل والانتقال والاستعارة، من الناس إلى الأفكار وأنماط العيش والمعتقدات وأشكال السنن والأخلاق والمأكل".في كتابه "تراتيل متوسطية" يقول الكاتب البوسني الكرواتي، بريدراك ماتفجيفتش: "إننا نجهل التجربة التي امتلكها العرب في ما يخص الملاحة قبل الاستقرار على ضفاف المتوسط". ولم يسمّ العرب، المتوسط، "بحرنا" على غرار اليونان والرومان، بل البحر السوري او البحر الروملي. ومن بين الأنهار الثلاثة التي تصب في بحر سوريا، وحده نهر العاصي (أورنت)، يفتح ممراً واسعاً نحو داخل الأراضي. تجاور الأرض الداخلية والساحل، الخلاء: هنا، كل ما ليس خلاء يذكر بالماضي: سفر أنطاكية إلى حلب مروراً بلبنان، استراحة في أنقاض بيروت (كثير من الحواضر المتوسطية الأكثر تألقاً دمرت في الماضي)، دمشق حيث تُحدَّد السيوف الأكثر انسلالاً، حيث تنسج الأقمشة الأكثر نعومة. والخلاء لا يذكر بشيء غير نفسه، لا يترك شيئاً يظهر هناك. وعند مصب العاصي تكثر أشجار الأسل الصلبة.ولأن العرب لا يشكلون شعباً واحداً، فقد عاشوا خلال حقب طويلة، متجاورين غير مجتمعين، لا يمتلكون الرؤى نفسها عن البحر والبر، وليس للرحل والمقيمين الآفاق نفسها. لكنهم لم يتركوا المتوسط بحثاً عن بحور أخرى. والطريف في الكتاب أنه ليس للعرب والأتراك والبربر والأقباط النظرة والصلة نفسها بالبحر. فالأتراك سموا داخل لغتهم كل المياه المالحة والعذبة بـ Denise. وكانوا في أغلب الأحيان مزارعين لا صيادين، غزاة لا ملاحين. أما البربر فهم يخشون البحر أكثر من العرب ويقول الكاتب: "لم يكن البربر، ولا يستطيعون أن يصبحوا شعباً بحرياً"، هم يمتلكون لفظا يسمون به قبضة المجذاف وليس المجذاف نفسه، "لقد كانوا مجذفين على السفن الشراعية الحربية، مسلمة، أو مسيحية". أما الأقباط فقد بنوا المعابد عوضاً عن البواخر، وشيدوا الأديرة بدلاً من الموانئ، وغالباً على حاشية الصحراء، وصارت الصلاة بديلاً للملاحة. واليونان غالباً ما يرتبط مصيرها بمصير المتوسط، فالماضي لا يعود ولا يعاد إنتاجه. وإيطاليا تتعزى بكون تراث العالم ارتكز على سواحلها في ماضيه، وكان المتوسط يوجه هذه الأوهام. وفرنسا التي ترتكز على البر الأوروبي أكثر مما هي على سواحله، منها انطلق المستكشف الكبير المولود في ألبي من بريست بالاسطرلاب والبوصلة، جان فرانسوا دي غالوب، وكانت الأعلام مزدانة بزهر الزنبق تتطاير في أعلى الأعمدة بمينائي تولون ومارسيليا، مهدّدة أحياناً القوى المجاورة.ورغم أنه لا شعب يحمل السمات المتوسطية كلها، فإن هؤلاء جميعاً يقدسون البحر ويتغنون بشجر التين والزيتون، ويزرعون الكروم واللوز في أرض ملائمة للبحر. يقتربون من البحر ويبتعدون عنه، يتسلّقون الجبال، ينحدرون إلى الوديان، مغيرين الأفق أو المنظور تبعاً لتنقلاتهم. لا يقطعون أي علاقة بالبحر، وتبقى إيطاليا، بلد الرحالة البحري كريستوف كولومبس مكتشف قارة أميركا، أكثر توجهاً نحو البحر من دول متوسطية أخرى، استيقظت وأيقظت العالم، مزجت الملاحة بالصناعة، والتجارة، والفن، والإبداع.الزيتون، اللوز، التين، الرمان، التبغ الأشقر، وندى البحر، هي فواكه المتوسط.الوعد بالبحر وملحه. وفي أيامنا هذه، يحصي المتوسط الأكثر فقراً (وهنا مفارقة) عدداً أكبر من الشباب، بينما يحصي المتوسط الأكثر غنى، عدداً أكبر من الشيوخ. من الممكن أن تصير متوسطياً، بغض النظر عن المكان الذي ولدت أو عشت فيه. المتوسطية لا تورث، إنها تكتسب، هي تميُّز لا امتياز. لا يتعلق الأمر فقط بتاريخ أو تقاليد، بجغرافيا، أو بجذور، بذاكرة او اعتقادات. المتوسط قدر كذلك.لقد احتفظ المتوسط بالأسبقية داخل الأدب البحري وفقدها في أمكان أخرى، لهذا هو ما زال ينتظر منذ زمن طويل عملاً كبيراً جديداً حول الإنسان والبحر.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top