بدأ حديثُنا ودّيًا وهادئًا، لكنه سرعان ما توتَّر وصار عاصفًا، عندما أطلقتُ أنا نوباتِ غضبٍ مفاجئ عجزتُ عن لجمه، فيما أستمع إلى كلامها الهادئ البارد عن تبريرها الحرب على أوكرانيا بهواجس بوتين ومخاوفه الأمنية على بلاده ومصالحها الحيوية من حلف الناتو الأميركي. وخلف تصاعد غضبي راحت تتزايد نقمتي على نفسي، لأنني انسقت مرغمًا إلى استرسالي في الغضب. لكنها لم تبادلني بمثله وظلت على هدوئها، حتى أنني، بعد إنهاء حديثنا الهاتفي، واستغراقي في التفكير في ما أثار غضبي في كلامها، عزمتُ على الاعتذار منها.
الجنّة والرأسمالية والشيوعيةهي امرأةٌ أعرفها وتعرفني وثيقًا، منذ ما قبل مغادرتها لبنان سنة 1982، وإقامتها وعملها في باريس وحيازتها الجنسية الفرنسية، وارتقائها اجتماعيًا وطبقيًا من أهل الحطام الاجتماعي في لبنان الحروب الأهلية، إلى الطبقة الوسطى الباريسية، ونشرها كتابين باللغة الفرنسية. وقد تهيأ لي أن مصدر غضبي من كلامها يكمن في انطوائه على أفكار عمومية يبثُّها في الهواء ما يسمى تيار الممانعة بمقولاته "السياسية"، وتنطلق منه مواقف محدّثتي من ما حدثَ في سوريا ويحدث في لبنان، وصولًا إلى أوكرانيا.
وربما ما كنتُ لأغضبَ ذاك الغضب وأنساق إليه، لولا انتباهي المفاجئ إلى أن "أفكار" الممانعة، بل تزويدها الناس بما يغني عن التفكير بحسٍّ سليم في الوقائع والتجارب الحية المتدافعة، هي التي تتكلم في محدثتي.
ويمكن تسمية هذه الحال من تسليم الممانع نفسَه وملكاته العقلية وتجربة حياته ونظره إلى العالم وحواسه: بلادة ذهنية، أخلاقية وشعورية وعاطفية إنسانية، حيال حوادث العالم المأسوية والكارثية، مسهِّلةً عليهم إدراجها وإدراج ما ينجم عنها من مذابح وتدمير وإبادة واقتلاع وتهجير، في مقولةٍ دوغمائية، بسيطة وعمياء، تختصر السياسة والتاريخ والاجتماع في ما يسمى ميزان القوى الذي لا يعني سوى شيء واحد: الضغينة التي لا ينضب معينها على ما يُفترض قوةُ أميركا والغرب، لأنهما وحدهما ابتكرا النظام الرأسمالي، وتوابعه الكارثية من كولونيالية واستعمار وعولمة، أدت كلها إلى توزيع غير عادل للثروة بين البشر المفطورين، أصلًا وفصلًا ومنذ فجر الإنسانية، على مبدأ أخلاقي ثابت في الزمن: المساواة الكاملة والشاملة والفطرية في ما بينهم. والمساواة هذه ما كانت لتنحرف عن مسارها وتصابُ بالعطب والتشوّه، لولا النظام الرأسمالي الغربي الغاشم والمدمّر!
وفي كلام محدّثتي اللبنانية- الفرنسية، وحدها الرأسمالية الغربية أرست مبدأ التنافس بين البشر على حيازة الثروة والقوة والمكانة. وأعمتْ بصيرتهم واستلبتهم أو خدّرتهم، وساقتهم بالعسف والقهر والعنف إلى عالم اللامساواة، على خلاف طبعهم وطبيعتهم وفطرتهم الأزلية. كأنما عالم ما قبل الرأسمالية الغربية، والأميركية تحديدًا، كان جنّة رخاء وبراءة، يعيش البشر فيها حالًا من النرفانا البلورية الصافية الخالدة. تمامًا كما كانوا يعيشون قبل أن تغوي حواءُ آدمَ بتلك التفاحة التي قذفَ اشتهاؤه إياها البشرَ من عالم الخلود النرفاني السماوي إلى عالم عذاب التفاوت واللامساواة والفناء الأرضي.. ثم جاءت أو وُلدت "الطوبى" الشيوعية والاشتراكية، لتعيد البشرية جمعاء إلى أصلها وفطرتها ومبدئها المساواتي الأصيل هنا على الأرض، فتخلّصها من النظام الرأسمالي الغربي المتوحّش المفروض عليها بالقوة والطغيان، غصبًا عن إرادتها الأولية، البديهية والطهورة.نسيانان متكاملانوحسب المرأة اللبنانية- الفرنسية الممانعة، بريءٌ هو العالم غير الرأسمالي الغربي من العسف والقهر والاستلاب والآثام التي يتخبط فيها العالم كله، بسبب الرأسمالية الغربية، الأميركية تحديدًا وبأشواطٍ أكثر من سواها.
والمرأة إياها تنسى تمامًا نسيانًا ذهانيًا وهذيانيًا كيف كانت حياتها خارج العالم الرأسمالي الغربي أو ما قبل الرأسمالي، أي في لبنان قبل أن تغادره هاربةً إلى عالم الرأسمالية الذي تُنزل عليه لعناتها، فيما هي تعيش فيه منذ أكثر 40 سنة.
وما تنساه من حياتها اللبنانية، هو: كيف كانت تعيش حياةً كسيحةً محطمة بعذاباتها الطاحنة، بالقهر، بالمذلة، بالمهانات اليومية الطبقية والأخلاقية والجنسية، بالعداوات والضغائن، بكفاف العيش والتعليم.. قبل خروجها من لبنان العنف والدم في حروبه الأهلية، عاريةً من أبسط حقوقها الإنسانية، وهاربةً إلى فرنسا الرأسمالية.
وهي تنسى بالقدر نفسه على أيّ حالٍ عاشت وماذا حصّلت هناك في فرنسا: تعليم عالٍ مجزٍ في جامعاتها. عمل ومسكن لائقين استحقتهما كسائر مواطني فرنسا الرأسمالية. ضمانات اجتماعية وصحية. حقوق تقاعديّة حتى نهاية حياتها. تقاضي راتبها الشهري سنتين أو ثلاثٍ في حال صرفها من عملها في انتظار عثورها على عمل جديد. تملُّكها مسكنين وسيارتين في باريس. تنقلها في قطارات أنيقة ومريحة في أجاء أوروبا المفتوحة. إجازات سنوية مدفوعة الأجر. سفرها أثناء هذه الإجازات إلى حيث ترغب وتريد من بلاد العالم وجهات الأرض. أصدقاء وصديقات من بلدان وجنسيات كثيرة. دورات تأهيل مهني مدفوعة الأجر، في حال رغبتها في تغيير عملها ومهنتها. حرية التنقل في بلدان العالم وجهات الأرض، متى شاءت وأرادت بلا تأشيرات دخول إليها. اكتساب عادات ومعارف جديدة. حياة فردية وشخصية حرة منعتقة من تلك الحرارة الرحمية الأهلية والعائلية وعنفها المدمّر في بلدها الحبيب لبنان.كبرياء بوتين والحنين الاغترابيتسكتُ المرأة اللبنانية- الفرنسية عن هذا كله الذي لا حساب في قاموسها الممانع، وتروح تصبُّ نقمة متطيرة، مجهولة المصدر والمنطق على الرأسمالية الغربية المتوحشة التي تعيش في كنفها.
ولا تعني لها شيئًا مشاهد تدمير بوتين روسيا عمرانَ أوكرانيا وقتل أهلها وتشريدهم في ديار أوروبا. وهي لا تبصر في خلفية هذه المشاهد سوى هواجس روسيا البوتينية ومخاوفها من حلف الناتو الأميركي، سببًا وتبريرًا لحربها المدمرة على أوكرانيا وشعبها الذي تمنِّنُهُ بأنه يتكلم اللغة الروسية وكان من الديار السوفياتية. كما لا تبصر أيضًا في خلفية المذبحة السورية سوى هواجس نظام بشار الأسد من أميركا وإسرائيل. ومن ما يحدثُ في لبنانها الحبيب، لا تبصر سوى النَّيل الأميركي- الإسرائيلي من منعة المقاومة والممانعة.
هل نختتم هذه البلادة الذهنية والأخلاقية، الشعورية والعاطفية، التي تتمتع بها الممانعة ولا تصحو منها إلا على الضغينة على أميركا، بقول إيمانيويل ماكرون أخيرًا؟: علينا ألاّ نجرح كبرياء روسيا البوتينية أو بوتين روسيا. أي علينا تفهّم هواجس بوتين ومخاوفه، كي يشفى أو يبرأ منها، فيما هو يسترسل في تدمير أوكرانيا. وإذا لم تشفِه أوكرانيا، فعليه بجيرانها. لماذا؟ ألأن جرح كبريائه وليد الغرب الرأسمالي والأميركي الذي عليه أن يكفّر عن ذنوبه في المحكمة البوتينية غير الرأسمالية العادلة؟أما هنا في لبنان، فلربما علينا أن نرحّب بالمغتربين اللبنانيين العائدين إلى ديارهم الأولى لمؤاساتها والتحنِّن عليها وعلى أهلها بما يساعدهم قليلًا من تحمُّل المحق الزاحف عليهم بلا هوادة في هذا الصيف. وربما كان على المرأة اللبنانية- الفرنسية إخراج نفورها من الرأسمالية الفرنسية التي تعيش في كنفها وتتمتع بخيراتها، من القول إلى الفعل. كأن تدعو أمثالها ومثيلاتها في باريس إلى تظاهرة شبيهة بتلك التي رأينا مشاهدها نهار انتخابات مغتربين لبنانيين في برلين، بعد خروجهم من سفارة بلدهم هناك يهتفون: يا نبيه (برّي) ارتاح ارتاح/برلين صارت شياح.
لكن ماذا يمكن أن يفعل من يشعر المهانة والقرف والغثيان والتقزّز حيال كلام من يصل إلى مطار بيروت من المغتربين، ويروح يقول للمذيعات التلفزيونيات إن روحه وجوارحه تتقطّع شوقًا وحنينًا إلى بلده لبنان؟! فالشوق والحنين الاغترابيان هذان ليسا سوى من أعراض تشبه أعراض الممانعة: بلادة أخلاقية وذهنية وشعورية وتعبيرية تثير الاشمئزاز.
فهل نحتفي في هذا الصيف بدبيب بلادتين، تتصدقان على بلاد الاختناق والمذلة والاهتراء ببعض دولارات، كتصدق المقاومة والممانعة علينا بشرفنا الذي نعيشه اليوم في كل ساعة ولحظة؟