- رانيا حتّي -
في ظل التنافر السياسي الدائم في لُبنان، غالباً ما تضيع الحقائق في بحر الجدل العقيم. وهذا بالضبط ما يحصُل اليوم في ما يتعلق بترسيم الحدود البحرية واستخراج الغاز اللبناني وذلك بعدما بدأت الاستعدادات الاسرائيلية لاستخراج الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه بين لبنان وعدوه. ويكاد محترفو الجدل البيزنطي يحرِفون القضية عن جوهرِها ويُغرِقون الوطن بمعرفة من المسؤول عن الخطّين الحدوديين 23 و 29، بينما يغيب الكلام تقريبا عن السبب الأساس الذي منع وسيمنع لُبنان من استخراج الغاز وهو متعلّق برغبة الغرب الأطلسي وفي مقدمه الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي في استجرار تنازلات كبيرة تتعلق بهوية الوطن وسلاح حزب الله.
هذا على الأرجح ما يُفسر كلام أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله بعد استقدام اسرائيل الباخرة اليونانية “Energean Power” FPSO (Floating Production Storage Offloading) لاستخراج الغاز من حقل كاريش ، بحيث خرج من دائرة الجدل حول الخطوط ، وقال صراحة “ممنوع على لبنان وأيضاً سوريا إستخراج الغاز الطبيعي” .
وكما في كل تصريح لنصرالله، هُنا أيضا تنقسم الآراء بين مؤيد لمضمون كلامه، ورافض له، وهذا الطرف الثاني الرافض والذي يُحمّل الحزب مسؤولية الكثير من الانهيارات في لُبنان، يعتبر أن أخطاء رسمية كبيرة حصلت في ترسيم الحدود وان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون هو المسؤول عن عدم التمسّك بالخط 29 الذي يُعطي لُبنان مساحة أكبر بكثير من الخط 23.
دعونا ننظر الى الأمر من زاوية أوسع لنخرج من الجدل العقيم، وندخل في صُلب الموضوع:
إن قضية الطاقة بشكل عام والغاز بشكل خاص تتخطى الحدود اللبنانية والسورية وتتخطى بالتالي مفاوضات الترسيم البحري والخطيّن ٢٣ و ٢٩ والمنطقة المتنازع عليها . فمادة الطاقة وأمنها من القضايا الجيو-استراتيجية والجيو-اقتصادية بامتياز، لذلك فالقضية مرُتبطة بمصالح محلية واقليمية ودولية لا يُمكن إغفالُها في عملية البحث عن سبب أو أسباب التعطيل والتأخير ومنع لُبنان من التنقيب عن الغاز أو استخراجه.
للتذكير مثلاً، فإن الإتحاد الأوروبي اقترح في العام 2012 مشروع بناء خط أنابيب للغاز لاستيراد هذه المادة الى أوروبا من شرق البحر الأبيض المتوسط بالتعاون مع ثلاث دول هي: مصر وإسرائيل وقبرص وذلك دون الإشارة الى لبنان وسوريا . ثمّ تمّ الإعلان عن هذا المشروع في العام 2013 من قبل المفوضية الأوروبية اضافة الى مشاريع أخرى عُرضت في عامي 2015 و2018 وخصّصت المفوضية حوالي ٣٤.٥ مليون يورو للدراسات الفنية والإقتصادية والبيئية المتعلقة ببناء خط الانابيب.
كذلك يؤكد مسؤولون لُبنانيون كانوا على تواصل دائم مع المبعوثين الاميركيين الى لُبنان، أن واشنطن غالبا ما كانت تأتي باقتراحات يُشتمّ منها محاولات ضغط حثيثة على لُبنان لتقديم تنازلات حيال الثروة الضخمة المتوقّعة، ويُحكى عن أن سبب اعلان شركة ” توتال” الفرنسية عن مخزون كبير ثم التراجع عن ذلك ثم التوقف عن العمل، يعود الى ضغوط أميركية، تماما كما ان بعض العقوبات التي فُرضت على مسؤولين لُبنانيين ارتبطت على الأرجح بمسألة ترسيم الحدود والضغوط المتواصلة.
اللافت في الأمر أن أحداثا كُبرى وقعت في المنطقة مع تعاظم الكلام عن اكتشافات كبيرة من الغاز في سواحل البحر الابيض المتوسط مقابل لُبنان وسوريا وفلسطين، وهو ما يدفع الى طرح أكثر من سؤال عن اسبابها ودوافعها وعمّا اذا كان يُمكن فصلُ بعضها عن هذه الاكتشافات، ومنها التالي:
بدأت الحرب في سوريا في العام 2011 ، مسبّبة نزواحا سوريا كبيرا الى لُبنان، وسُرعان ما طُرحت افكار كثيرة حول توطينهم مع الفلسطينيين على الاراضي اللُبنانية. وثمة كلام دولي كثير موثّق حول هذا الأمر.
في العام 2013 احتلت داعش مناطق حدودية بين لُبنان وسورية ووصلت الى قلب مناطق لُبنانية داخل الحدود ( وبينها عرسال مثلا).
أدخلت مادة نيترات الأمونيوم الى مرفا بيروت في العام 2013، لتحدث في العام 2020 كارثة بشرية وعمرانية واقتصادية. هل كان إدخالها بالصُدفة أو خطأ أو سهواً؟؟ أم أن في الأمر شيئا أخطر وأكبر.
أندلاع انتفاضة او ثورة 17 تشرين 2019 وما تخلّلها من اتهامات لبعض مُطلقيها بالمساهمة في ” الفوضى الخلاّقة” التي سوّقت لها مستشارة الأمن القومي الاميركية السابقة كوندوليسا رايس في سياق هندس شرق أوسط جديد . بينما اعتبر الناشطون أن هذه الاتهامات ضدهم لا أساس لها من الصحة وأنها تصب في خانة شيطنتهم. لكن في الحالتين ترنّح الوضح اللُبناني على ضوء ما حصل.
فرض عقوبات من خلال إقرار قانون قيصر في الكونغرس الأمريكي على سوريا، وتداعياته السلبية على لبنان. ثم فرض عقوبات على شخصيات لُبنانية مُحدّدة بتهم تتعلق بالفساد بينما تم تجنيب شخصيات كثيرة أخرى مثل هذه العقوبات رغم غرقها بالفساد حتى النخاع لكنها كانت ضد حزب الله.
إرتفاع سعر صرف الدولار، ما أدّى إلى انخفاض قيمة العملات في سوريا ولبنان . واعتراف مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر قبل يومين من الإنتخابات النيابية اللبنانية بدور واشنطن في أزمة لبنان عبر تسريع الإنهيار المالي وترقب ما ستؤول إليه نتائجها.
محاولة فرض صفقة القرن ( الاتفاقات الابراهيمية) التي أقرّت سنة 2020 عبر التطبيع والتوطين خلال مدة عشر سنوات.
لو بحثنا عن قرب تواريخ ومضامين هذه الأحداث، نستنتج أنّ الأزمات السياسية والإقتصادية التي تعرّض لها لبنان وما زال في خلال عهد الرئيس ميشال عون منذ العام 2016، لم تأت عن عبث. ولا شك ان الكثير منها يندرج في إطار الضغوط الاميركية والغربية الكبيرة على لُبنان لتغيير وجهة النظام بالتهديد والترغيب تارة، أو بمحاولات تفتيت المجتمع اللبناني من الداخل تارة أخرى. ذلك ان الغرب الأطلسي لم ولن يهضم 3 قضايا جوهرية تمسّك بها رئيس البلاد، وهي: أولا الوقوف الى جانب الدولة السورية في حربها التي اشتركت فيها معظم دول وتنظيمات وأحزاب وارهاب وميليشيات العالم، وثانيا استمرار التمسك بدعم المقاومة والتحالف معها، وثالثا عدم الرضوخ للضغوط الأميركية في قضيتي التطبيع وترسيم الحدود.
لو ان الرئيس عون قدّم تنازلات في أي من هذه القضايا، لربما تغيّرت كل الرياح الدولية حيال عهده، لكنه اختار التمسّك بالاستراتيجية السياسية الدفاعية مع الجيش والشعب ومحور المقاومة، وذلك فيما سعى حزب الله وحلفاؤه لمحاولة صد أي محاولة اسرائيلية أو غربية لفرض أنابيب غاز باتجاه أوروبا تتعارض مع مصالح لُبنان وسورية والمحور. فلا يغيب عن بال معظم الباحثين والمحلّلين الذين لم ينزلقوا الى أتون وفخاخ الجدل البيزنطي مع هذا المحور او ذاك، أن أحد أسباب الحرب السورية كانت أنابيب الغاز التي كان يُراد لها ان تصبح بديلا عن الانابيب الروسية وضد مصالح موسكو.
اليوم تواجه أوروبا أسئلة مُقلقة حول مصير الطاقة فيها، فروسيا التي تُصدّر لدول الاتحاد الاوروبي ما بين 40 و 47 % من حاجاته من الغاز، اقفلت الانبوب رداً على عقوبات أوروبية بعد الحرب الأوكرانية، وتشترط ان تدفع لها الدول الأوروبية بالروبل. ولذلك بدأ العالم يبحث عن أنابيب وخطوط أخرى من الجزائر وقطر ومصر حتى إسرائيل ولُبنان، وهنا تكمن العقدة الكأداء، فهل سيُسمح فعلا للُبنان بأن يستخرج غازه بشروطه، أم ان الشركات العالمية التي ساهمت تاريخيا بقلب أنظمة وانقلابات بحثا عن السيطرة على النفط والطاقة والثروات الزراعية والمعدنية، ستواصل بقرار سياسي منع لُبنان من الحصول على هذه الثروة طالما فيه سلاحُ حزب الله وطالما قرارُه السيادي لم يتغيّر رغم كل الضغوط؟
إن ما تقدّم يُشير الى أن لُبنان أمام احتمالين: فإما ان المصالح الغربية ستُساهم في تسريع خطوات الاتفاق بين لُبنان واسرائيل وبالتالي تُسرّع عمليات استخراج الغاز وتُرسل شركاتها الى بيروت، أو أن المصالح نفسها ستمنع ذلك وتفرض طوقا أقسى، وتساهم بإشعال بؤر توتر أكبر في الداخل اللبناني.
هنا يكمن لُب المُشكلة ، وليس في اتهام رئيس الجمهورية بالتنازل، بينما لو تنازل لكان اليوم أحد أسياد الشرق الأوسط بدعم الأطلسي، وهو لو كشف ما لديه، سيروي الكثير عن حجم الإغراءات الغربية والعربية التي وصلته منذ اندلاع الحرب السورية حتى ترسيم الحدود ليغيّر موقفه.
الكاتبة: رانيا حتّي
باحثة جامعية بالجيوبوليتك