2024- 11 - 01   |   بحث في الموقع  
logo 63 عمليّة لـ”المقاومة الإسلامية” خلال الأيام الـ3 الماضية logo تهديد إسرائيلي بقصف مبانٍ في برج البراجنة وحارة حريك logo تحذير إسرائيلي للسكان في الضاحية الجنوبية بالابتعاد عن مواقع حزب الله logo سلسلة غارات إسرائيلية على النبطية.. logo لا وقف قريباً لإطلاق النار ولا مفاوضات logo "ألاعيب" نتنياهو والتفاهمات الأميركية الإسرائيلية تُضمر حرباً طويلة logo أكسيوس: إيران تستعد لهجوم وشيك على إسرائيل.. من العراق logo محكمة باريس تُلغي قرار منع الشركات الإسرائيلية من "يورونيفال"
"أوسكين": الإرهاب الفرنسي
2022-06-04 18:55:56

يمثل مسلسل "أوسكين" التفزيوني القصير، أول الإنتاجات الفرنسية لمنصة "ديزني بلس"، ويرتكز على أحداث حقيقية، محاكياً قصة معاناة عائلة جزائرية بعد مقتل ابنها الشاب على أيدي قوات الأمن الفرنسية، والنضال من أجل حفظ ذكرى الضحايا وكرامتهم، ومناورات دولة عنصرية لإخفاء الحقيقة.
وفي المسلسل، على غرار إنتاجات سابقة حاكت قصص عنف الشرطة، يروي أنطوان شيفرولييه قصة الشاب مالك أوسكين: تعرَّض للضرب والركل حتى الموت. في البطن، وفي الظهر، وفي الرأس. يقول إنه لم يفعل شيئاً، لأنه لم يفعل شيئاً في الحقيقة. تمتماته المستغيثة لم تهدّئ من عنف جلّاديه. دمه يتناثر على جدران مدخل البناية حيث توسّم العثور على ملجأ، ولم يجده. الإسعافات الأولية لا تفيد. نقلته سيارة إسعاف إلى مستشفى كوشين في باريس، حيث أعلنت وفاته في الثالثة من صباح السادس من كانون الأول/ديسمبر 1986. كان عمره 22 عاماً، وهو فرنسي من أصل جزائري. يحبّ موسيقى الجاز. كان عائداً إلى شقته بعد حفلة رائقة لمطربته المفضّلة نينا سيمون. لكن ثلاثة من رجال الشرطة قرروا إنهاء حياته.
مشاهدة "أوسكين" ليست مسألة هيّنة أو سهلة. كأن الشاشة تنسحق مشهداً بعد مشهد ويستقر قذاها في فم المشاهد حتى يجفّفه. يعلم المرء أنه يشاهد مسلسلاً قصيراً يستند إلى حادثة قتل حقيقية لم يُحاكم فيها أحد، وفي طريق بلوغ تلك المحطة الأخيرة، يتوجّب عليه النظر والتحديق في معاناة عائلة أوسكين المغدور، ومتابعة الحيل القميئة للدولة الفرنسية لإخفاء الحقيقة، ومعاينة صور العنصرية المؤذية في فرنسا، وبالتالي المجتمع الأوروبي. لكن لتحليل المسلسل وكل ما يريد قوله وإخباره، يجب على الكاتب أن يتخلّص أولاً من كآبته ويأسه. يمسح عيونه الحزينة، لأنها لا ترى بوضوح في العادة؛ مثلما تكتب الأيدي الناقمة بغضب، لكنها لا تعبّر عادة بصفاء.في "أوسكين"، من اللافت كيف أن جمالياته الدقيقة تخضع في جميع الأوقات للرسالة التي يريد المسلسل نقلها: النقد الاجتماعي الشرس. مثالان على ذلك: أولاً، المشهد التمهيدي لظهور قوات الـ"Voltigeur" (وحدات قمع العنف المتنقلة الفرنسية الموروثة من عهد نابليون). هناك اثنان منهم على كل دراجة نارية. يضربون بالهراوات الطويلة الحواجز والجدران والأعمدة المعدنية. يتحدثون لغة التخويف. يطنّون مثل دبابير غاضبة، ويوجّهون زئيرهم لمطاردة المتظاهرين أو، كما في حالة مالك، المشاة المارّين. ثيابهم مظلمة كالليل ووجوههم لا وجود لها تحت خوذهم. كل شيء عنهم مخيف. المسلسل، بلغة جمالية تلمّح وتصرّح في الآن ذاته، لا يقدّمهم كشرطيين، بل كمجرمين وقتلة.الصورة الثانية التي يجب إبرازها موجودة أيضاً في الحلقة الأولى، وفي مشهدها الأخير تحديداً. بعد ساعات طويلة أخفى فيها أشقاء مالك، محمد وفطنة وسارة وبنعمر، وفاة أصغر أشقائهم عن والدتهم عائشة، تكتشف الأخيرة رعب الحقيقة. وتنهار. ويحيط بها الأبناء الأربعة في عناق جماعي مرتجف، قلب من الأجساد تكون فيه عائشة هي المركز الوحيد الممكن. يخبرنا المسلسل أن هذه هي أيضاً قصة عائلة غير قابلة للانكسار، ترفض الانهيار في أعقاب مصيبتها. فقط من خلال التمسك ببعضهم البعض، سيتمكنون من إيجاد معنى لحياة لم يعد لها معنى بعد مقتل مالك. أداء الممثلين والممثلات الذين جسدّوا أفراد عائلة أوسكين، بقيادة هيام عباس، عمل هائل ببساطة.في مقابلة صحافية، وصف المؤرخ الفرنسي باسكال بلانشارد، مالك أوسكين، بـ"جورج فلويد الفرنسي". ربما هذا هو السبب في أن قصة أوسكين مألوفة جداً، حتى لأولئك الذين لم يسمعوا الاسم مطلقاً قبل إصدار المسلسل: إنها واحدة من تلك القصص التي تحدث طوال الوقت وفي كل مكان وبشكل متماثل. لم يكن شيفرولييه نفسه قد سمع عن أوسكين من قبل، إلى أن تعرّف على قصته من خلال أغنية راب بعنوان "جريمة دولة" لفرقة "أساسين"، وردت فيها عبارة "الدولة تغتال، ومالك أوسكين على ذلك مثال". في العام نفسه لصدور الأغنية، لعب الممثل فينسينت كاسِل، عمّ أحد أعضاء فرقة الراب، بطولة فيلم "الكراهية" من تأليف وإخراج وتحرير ماتيو كاسوفيتز.
كان شيفرولييه في ذلك الوقت صغيراً جداً (في الثالثة عشر من عمره)، على مشاهدة فيلم مثل "الكراهية"، لكنه لو كان قد شاهده، لأدرك على الفور أن ثمة قصصاً تتطابق ويتكرّر حدوثها دائمًا في كل مكان. كانت وفاة مالك أوسكين واحدة من ثلاثمئة "لطخة"، وهي الكلمة التي عرّف بها الفرنسيون في الثمانينيات، "المواجهات" مع الشرطة، التي انتهت بموت أولئك الموجودين في الجانب الآخر من الزي الرسمي، والتي دفعت كاسوفيتز في العام 1993 إلى البدء بكتابة السيناريو الذي سيصبح في ما بعد تحفته. "كيف يمكن لشخص أن يستيقظ في الصباح ويموت في المساء بهذا الشكل؟"، تساءل كاسوفيتز وهو يفكّر، من بين آخرين، في أوسكين الذي قُتل أثناء محاولته العودة إلى المنزل بعدما كان في حفلة لنينا سيمون.لم يهتم مالك بالحركة الطلابية، كان مهتماً بأشعار نيرودا والموسيقى والجودو. حمل معه دائماً الكتاب المقدّس، وكان يفكّر في التحول للمسيحية، ثم الانضمام للجيزويت. باختصار، أراد أن يكون فرنسياً: أن يصلّي بلغة ومعابد بلده، كما يقول في مرحلة معينة من المسلسل للكاهن الكاثوليكي الذي أفضى إليه بنواياه. وفقاً لشيفرولييه، كان ما حدث لأوسكين أكثر دراماتيكية وصدمة، لأن الشخص الذي مات كان شاباً يؤمن حقاً بـ"الاستيعاب". الكلمة ذاتها المستخدمة في الثمانينيات لوصف التحوّل الذي أدّى بالعديد من الفرنسيين من أصل مغاربي إلى أن يكونوا "فرنسيين أكثر من البيض": لقد نسوا أو تجاهلوا أصولهم العربية من أجل التخلي عن أنفسهم في حلم الاندماج. وهو ما مثّلته حكومة ميتران الاشتراكية. سيضع موت أوسكيني حداً للاندماج ورطانته المصاحبة، وعند هذه النقطة سيعود الجميع إلى الجزء الخاص بهم من المدينة: البيض الأغنياء بين غراند بوليفارد، والمهاجرون الفقراء في الكتل السكنية المستطيلة الواقعة خلف بيريفيريك، حيث يمكن أن يحدث أي شيء ولا يهتم أحد لأمرهم.قال فيكتور هوغو أن تاريخ المدن ينعكس في مجاريها. هذا هو الحال أيضاً في الدول. إن الأمر الأكثر رعباً الذي يظهره "أوسكين"، رغم أنه قد يبدو غير قابل للتصديق بالنسبة لدولة تصدّر صورة مغايرة عن نفسها، ليس قتل شاب بريء على يد الشرطة، وإنما مناورات الدولة الفرنسية لإخفاء مثل هذا الحدث. حتى لو كان ذلك يعني سرد أكاذيب لا تليق، واتهام مالك بأنه إرهابي، وتشويه سمعة عائلة أوسكين، وهندسة آليات شريرة لدفن الحقيقة وتلفيق حقائق بديلة في قضية واضحة، ضحيتها معروفة بقدر الجناة الذين لم يذهب أي منهم إلى السجن. يتعمّق المسلسل أكثر فأكثر في ظلمات المجتمع الفرنسي وألاعيب الساسة ومسؤولي الدولة.بعد مقتل مالك، استباح اليمين المتطرف عائلة أوسكين: اعتدوا على إحدى الشقيقات، وأشعلوا النار في منزلهم، وكتبوا على السلالم المؤدية لشقة والدته ليقولوا إن ابنها "مات مثل الجرذ الذي كانه"، مثلما كتبوا على جدران البناية نفسها عبارات مثل "العرب أبناء العاهرات" أو "فرنسا للفرنسيين". هذا الإجراء المتمثل في إعادة إيذاء الضحايا، وسحق عائلة الشخص المقتول من دون أي ملمح إنساني أو حساسية أخلاقية، ليس ببعيد عما رأيناه مؤخراً من سلطات الاحتلال الإسرائيلي في أعقاب مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة. لا يمكن لجنسنا أن يظهر وجهاً أسوأ من وجه هذه الوحوش، أيتام المخّ والقلب المليئين بالشرّ والكراهية.والحال أنه لدى مشاهدة "أوسكين"، يلاحظ المتفرج لمحات من مسلسلات وأفلام أخرى. الديناميات الداخلية لمجموعة رجال الشرطة الذين قتلوا مالك، تشبه إلى حد بعيد تلك التي رُوِيت في المسلسل الأسباني "شرطة الشغب". ويجد فيها هذا التصوّر العنيف لـ"العائلة" حيث يعمل الحب الأخوي، في أشد حالاته سُمّية وترهيباً للفرد المتشكك، على التستُّر على الفظائع التي ترتكبها المجموعة. السخط الذي يشعر به المرء عند مشاهدة مناورات الدولة لإخفاء الحقيقة وإلقاء اللوم على الضحية، مطابق لما كان حاضراً في "عندما يروننا". ذكريات الماضي التي تُرجِع المُشاهد إلى ليلة مقتل مالك، مع اقتراب الكارثة والعجز في مواجهة معرفة أن المأساة حتمية، تعيد ذكرياته إلى المسلسل الإنكليزي "آن" من إنتاج 2022، وهو مسلسل يروي قصة أمّ ناضلت لعقود من أجل الكشف عن الحقيقة بعد مأساة هيلزبرة التي فقدت فيها ابنها الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً.بدلاً من الاقتصار على استخدام أوسكين ومصيره، كخطّاف لإنشاء سياقات أكبر، يجعل مسلسل "أوسكين" بطله مركزاً عاطفياً للقصة، للتجوال في ماضيه، عبر الفلاش باك، والكشف عن خلفيات ومقدّمات الصعوبات والمعوقات التي واجهت المهاجرين العرب في فرنسا. وعائلته المكلومة أيضاً تشارك: والدته عائشة (هيام عباس)، وإخوته الأكبر سارة (منى سويلم)، ومحمد (توفيق جلاب)، وبنعمر (مالك المرراوي)، هم أيضاً أبطال لا يكتفون بتمثيل واقع ويوميات نماذج من مسلمي فرنسا ذوي الأصول المغاربية في منتصف الثمانينيات، كذلك تأتي نتف من حياتهم في الأحداث التاريخية، مثل مذبحة باريس خلال الحرب الجزائرية العام 1961 أو صعود الجبهة الوطنية والتيارات اليمينية المتطرفة.يوضّح المسلسل بشكل لا لبس فيه أن حالة "أوسكين"، ما زالت صالحة حتى اليوم، وهو يفعل ذلك من دون الإشارة بمطرقة ثقيلة أو الصراخ. العنصرية والتمييز، وعنف الشرطة وإساءة استخدام العدالة، وتصعيد الاحتجاجات.. كلها أمور موجودة اليوم، ليس فقط في المجتمع الفرنسي، كما كانت قبل 36 عاماً.قال شيفرولييه إنه استوحى من مسلسل "عندما يروننا" ومن المسلسل الشهير "ذا واير" من تأليف ديفيد سايمون، وهذا صحيح وبائن. لكن أثناء مشاهدة المسلسل، يمكن ملاحظة إلهام من أكيرا كوروساوا وفيلمه "راشومون"، في محاولته لإعادة بناء الحقيقة حول موت أوسكين من خلال وجهات نظر الناجين: الأسرة ورجال الشرطة والمحامين والإعلام والرأي العام.أخيراً، "أوسكين" هو مسلسل عن الحقيقة، والجهد الأبدي والضائع لتحقيق السلام والعدالة من خلالها، عن طقوس وعادات عقيمة ومفلسة (تحقيقات، محاكمات، استفسارات صحافية، أعمال روائية) نقترفها من جديد في كل مرة أثناء محاولة بلوغ ما لا يُبلغ. "لا سلام بلا عدالة"، يردد المتظاهرون خارج قاعة المحكمة كل يوم، خلال محاكمة ضابطي الشرطة المتهمين بقتل أوسكين. لكن إن كانت ثمة جملة تلخّص "أوسكين" بمثالية، فليس عبثاً أن تأتي على لسان الكاهن أثناء محادثة مع شرطي متنفّذ: "الحقيقة هي السبيل الوحيد المنشود. وهذا يسري على الكاهن، مثلما على الشرطي".


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top