مطلع الأسبوع، أعلنت الحكومة المصرية على لسان رئيسها، الدكتور مصطفى مدبولي، إطلاق مخطط اقتصادي جديد بعنوان "وثيقة ملكية الدولة"، على أن يتم الكشف عن تفاصيله كاملة في تموز/يوليو المقبل. إعلام الدولة يتأرجح في تسويغه تلك الخطوة، بين حجج "تمكين القطاع الخاص"، وبين الإقرار بـ"تخارج الدولة". يعني التوصيفان الشيء نفسه، ستقسم الحكومة القطاعات الاقتصادية إلى فئات ثلاث، لكل منها لونها الخاص. الأحمر للقطاعات التي تنوي التخارج منها نهائياً، أما القطاعات المصبوغة باللون الأخضر فستستمر الدولة في الاستثمار فيها لأسباب استراتيجية واجتماعية، وأخيراً اللون الصفراء يخصص لقطاعات تتشارك فيها الدولة مع القطاع الخاص في التمويل والإدارة.تهوى الحكومة الحالية الشعارات البراقة. هنا، لا تبدو عنونة الوثيقة مجرد رطانة إعلانية مفرغة من المضمون، بل في الحقيقة هي شعار يعاكس دلالاته المباشرة. فوثيقة ملكية الدولة تعني عملياً التخلي عن تلك الملكية أو بعضها. أما منظومة ألوان إشارة المرور تلك، المفضلة لدى خبراء مكاتب الاستشارات العالمية، فتضفي على مساحات من الحقل الاقتصادي صفة الخطر، وعلى تلك التقسيمة سمة النظام البديهي والراسخ. يوحي ذلك كله، بأننا مقبلون على مرحلة جديدة من الخصخصة، كانت متوقعة بالطبع، لكنها تتبع منطقاً مغايراً مقارنة بموجات الخصخصة السابقة.في السابق، كانت الحجة الأكثر شعبية لبيع بعض من شركات القطاع العام، هو أنها تمثل عبئاً على الموازنة العامة، بسبب مراكمتها الخسائر وعجز الحكومة عن تمويل تطويرها أو رفع أجور موظفيها لتلاحُق مستويات التضخم العالية. لكن، وبحسب المخطط الجديد، لا يعود الأمر متعلقاً بالربح أو الخسارة، بل بموقف مبدئي من قطاعات بكاملها، وكذا بالتزام أعلنته الدولة ببيع أصول بقيمة 10 مليارات دولار كل عام، على مدى الأعوام الأربعة المقبلة.تخلت الدولة المصرية عن منهج رأسمالية الدولة منذ وقت طويل، فهي لا تقود عمليات الإنتاج والتراكم الرأسمالي والتنمية، ولا يُنتظر منها أن تكون ضامناً للتوظيف بأي شكل من الأشكال. لكن، ومن الملامح العامة التي قدمها رئيس الوزراء في كلمته، يمكن التكهن بأن المرحلة المرتقبة ستشهد توسعاً في تخارج الدولة من المرافق العامة أيضاً. سبعة موانئ سيتم دمجها في شركة واحدة لطرحها في البورصة، ومعها مشروعات النقل السريع، وقطار المونوريل والقطارات السريعة، ومن المتوقع أيضاً أن تُطرح الشركة القابضة للكهرباء، خصوصاً بعد رفع الدعم الحكومي عن الطاقة ومشاريع تعليمية مشتركة. بل ومن المخطط طرح المزيد من الشركات المملوكة للجيش في البورصة، وإن كان من غير الواضح إن كان هذا سيعني تخلي القوات المسلحة عن أدوارها الاقتصادية، أم أنه مجرد إعادة ترتيب لأولوياتها.في الواقع لا تمثل تلك الخطوات والنوايا تحولاً جذرياً عن السابق، فسياسات خصخصة المرافق العامة كانت قائمة بالفعل، وتسارعت وتيرتها خلال العقد الأخير قبل ثورة يناير. إلا أن مخطط التخارج الحالي يأتي في سياقات مغايرة. ففي حقبة مبارك، كان تنافس بين هيئات البيروقراطية العليا للدولة مدنية وعسكرية، وصراع بينها، قد وضع مكابح على عملية الخصخصة. وأوضح الأمثلة على ذلك، كانت سلسلة من الأحكام القضائية من المحكمة الإدارية بوقف عمليات البيع أو مراجعتها وأحياناً إبطالها. لم تعد تلك الاستقلالية، أو ما يمكن وصفه بالتفكك ذي التبعات الإيجابية، متوافرة في ظل النظام الحالي. بالقدر نفسه، أتاح الحد الأدنى من استقلالية القضاء، لموظفي القطاعات المخصخصة وعمّالها، مساحة مناورة قانونية، كافية لانتزاع بعض حقوقهم أثناء عمليات البيع وبعدها. اليوم، لا يمكن ضمان هذا.في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، ارتبط تسارع عمليات الخصخصة مع ارتفاع غير مسبوق في وتيرة الإضرابات والاعتصامات العمالية. وفي أحيان كثيرة، تعاملت الأجهزة الأمنية مع تلك الاحتجاجات العمالية بالقمع، ومن الواضح أن مستوى المخاطرة، بالمشاركة في أي عمل نقابي أواحتجاج عمّالي الآن، أعلى بكثير من الماضي.والحال إن غياب الكوابح ووسائل المساومة والتسوية، ليس المعضلة الوحيدة. فالأزمة الاقتصادية الحالية، بعمقها واتساعها وطبيعتها الطارئة بشكل شبه مستمر، تفرض على النظام تفريطاً في أصول الدولة، لن يمكن تعويضه. فما تدعي الدولة أنها استثمارات يتم جذبها من الخارج لشراء الأصول المخصخصة، ليست استثمارات بالمعنى الحقيقي، بل عمليات نقل ملكية لأنشطة قائمة بالفعل، وعلى الأغلب تحويل أرباحها أو إمكانات تحقيقها تراكماً رأسمالياً إلى الخارج. أما حصيلة عمليات البيع، فسيبتلعها بشكل فوري عجزُ الموازنة الهائل وخدمة الدين التي غدت تمثل أكثر من نصف الالتزامات العامة.نهاية السبعينيات، بدأت النيوليبرالية بسياساتها التقشفية وأيديولوجيا الخصخصة، تتسيد الأجندة الاقتصادية حول العالم، وتوسعت تلك السيادة بسقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته الشرقية مطلع التسعينات. ولا تبدو مصر استثناء في ذلك، إلا أن ما تفتقده هو قدرتها على التدخل الفعال لضبط القطاعات التي تخلت عن العمل فيها بشكل مباشر، على غرار ما حدث في ظل الأزمة الاقتصادية العامين 2007 و2008، عندما تدخلت الحكومات الغربية لإعادة تأميم بعض المؤسسات، إما بشكل كامل أو جزئي، وتكرر الأمر في ظل وباء كورونا.في واحدة من أكثر لحظاتها هشاشة اقتصادية، تتخلى الدولة المصرية عن المزيد من أصولها كمراهنة على تحسن مستقبلي يعوض خسائرها، إلا أن دفع الأزمة إلى الأمام قد يعني أن ذلك الرصيد الذي اعتادت الحكومات المتعاقبة على السحب منه عند الحاجة، بات على وشك النفاد.