نشرت وسائل إعلام "هيئة تحرير الشام" مؤخراً، خبراً مفاده ترفيع رئيس "حكومة الإنقاذ"، عدداً من ضباط كلية الحربية، لرتب أعلى. ربما يباغت الخبر من لا يتابع الشأن السوري من كثب. فوجود جيش وضباط ومدرسة عسكرية ورُتب وشارات، يعني نوعاً من حالة سيادية لدولة، وهذا صحيح إلى حد ما. فلا أحد يستطيع أن ينكر وجود دويلة في إدلب، والأمر عينه ينطبق على مناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني في شمال سوريا، والواقع تحت سيطرة الحكومة المؤقتة، حيث تعمل كليّتان عسكريتان على تخريج الضباط بانتظام، كما يحدث في مناطق سيطرة قوات الكردية في شرق الفرات. إن تأمل تاريخ سوريا الحديث، يفيد بأن الجيش، كعنصر مؤسساتي مركزي، يمكن عزله ودراسته، يمثل الحدّ الأوضح للفالق الذي نشأ في هذا البلد قبل قرن كامل من الزمان، متسبباً في سلسلة من الزلازل والارتدادات، التي تحيل على نحو سطحي إلى الانقسامات الطائفية والإثنية للمجتمع السوري، لكنها في العمق تؤشر إلى فشل مشروع الدولة الحديثة، الذي يؤدي بالضرورة إلى بروز العصبيات الدينية والإثنية، وتحولها إلى دويلات موازية. تتلخص الفكرة التي سأناقشها في سلسلة المقالات هذه، في أن الانتداب الفرنسي قد أنشأ الدولة السورية على تناقض بنيوي، طرفه الأول هو النخب السنيّة، المدينية بالدرجة الأولى، التي أقرّ هيمنتها القديمة على المجالات السياسية والاقتصادية، وطرفه الآخر الناشئ، هو الجيش المكون من الأقليات.حين واجهت السلطات الاستعمارية مقاومة شديدة من النخب السنيّة المدينية، التي لم تتقبل فكرة فقدان امتيازاتها في ظل السلطنة العثمانية، التفت الفرنسيون إلى الأقليات التي عانت التمييز والاضطهاد تحت الحكم العثماني، خصوصاً الدينية منها، وعملت على تعبئتها وتنمية نخبها في مؤسسة الجيش. ولم تلحظ مخاطر هذا المزيج حينها، لأن سلطات الانتداب حالت دون تداخل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، مع المجالات والشؤون العسكرية.بدأ الصدام ما أن رفعت سلطات الانتداب يدها عن سوريا سنة 1946، ووجد الفريقان نفسهما وجهاً لوجه، مرتبطين برمز واحد اسمه الدولة السورية المستقلة. حاولت النخب المدينية على الفور إنهاء هيمنة الأقليات على الجيش، لكن نكبة فلسطين سنة 1948، حالت دون التمكن من ذلك. ودفع التنافس السياسي في تلك الفترة، مزيداً من أبناء الأقليات إلى الجيش. وأيقظت الانقلابات العسكرية الوعي الذاتي للنخبة العسكرية الأقلوية بقوتها وممكناتها، وسيظهر ما يبدو أنه نزعة للاستيلاء على الدولة، كان من نتائجها المباشرة لجوء 16 ضابطاً كبيراً، جميعهم من السنّة، إلى جمال عبد الناصر، مطالبين بوحدة اندماجية فورية تشمل الجيش على وجه السرعة، لتذويب الكتلة الأقلوية في بحر العسكرية المصرية. الأمر الذي ردّ عليه هؤلاء بتأليف اللجنة العسكرية السريّة من ضباط علويين ودروز وإسماعيليين، تم "إقصاؤهم" إلى الإقليم الجنوبي. ولتعود هذه المجموعة للعمل الحثيث على الاستحواذ على السلطة بشكل واضح ومباشر، بدءاً من انقلاب 1963، الذي تحالفوا فيه ضد الضباط الدمشقيين مع ضباط سنّة ريفين من دير الزور وحوران، ولم يلبثوا أن تخلصوا منهم، لينتقل الصراع إلى داخل معسكر الأقليات، حيث تخلص العلويون من كتلة الدروز التي انتهت بإعدام سليم حاطوم سنة 1967، ثم من الإسماعيليين عندما قُتل أو انتحر العقيد عبدالكريم الجندي سنة 1969، تفرغ بعدها حافظ الأسد لمنافسه العلوي صلاح جديد، فدفعه إلى السجن سنة 1970، ليستولي مع شقيقه وضباط من عشيرته وعشيرة زوجته على الدولة، التي آلت في عهده إلى سلطة عائلية تحتكرها أسرته بالذات وتتوارثها.إن ما حدث ابتداء من ربيع 2011، هو محاولة السوريين استعادة الدولة، وعندما تخندق العلويون وراء الأسد للدفاع عن "دولتهم" الخاصة، كان من المنطقي أن تعمل كل فئة على استعادة "حصتها" من هذا الكيان، لتشكل دويلتها الخاصة، على النحو الذي وصفه المفكر السوري برهان غليون سنة 1978 في كتابه "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات" حين كتب محذراً أنه: "بقدر ما تحول الدولة إلى دولة عصبة دينية أو علمانية، تتكون عصبويات مقابلة وتتحول إلى أشباه دول موازية، تبدأ كمركز للدعوة الأيديولوجية لتصبح تنظيماً، وفي ما بعد جيشاً ومؤسسة كاملة شبه قومية". من سقوط الدولة العثمانية إلى قيام الدولة السورية المستقلة شكل الفرنسيون "فيلق الشرق" سنة 1916 لمحاربة العثمانيين، وضم 4500 عنصر من اللبنانيين والسوريين والأرمن. وتغير اسمه إلى "قوات الاحتياط في المشرق" سنة 1920، وبلغ عديده 7000 جندي سنة 1924، ثم صار اسمه "القوات الخاصة في المشرق"، التي بلغ عديدها سنة 1942 أكثر من 22 ألف مقاتل. وسلّم الفرنسيون الجيش للحكومتين السورية واللبنانية، في الأول من آب 1946، عقب نيلهما الاستقلال بشكل رسمي ببضعة أشهر، وترك لمنسوبيه أن يختاروا بين الالتحاق بالجيش الوطني أو بفرنسا، فالتحقت أعداد من الضباط والجنود بفرنسا "ومنهم بعض الضباط الأرمن". وعندما غادر آخر الجنود الفرنسيين سوريا، "ارتفع عدد القوات النظامية في الدولة الوليدة إلى قرابة 12 ألفاً، متضمنة نحو سبعة آلاف رجل هو "تعداد الفرقة السورية في القوات الخاصة الموروثة عن الفرنسيين".كان اختلال التمثيل الاجتماعي في تلك القوات بارزاً، إذ بينما كانت "الأقليات من الطوائف الدينية والعرقية تمثل 28.7% من السكان (مثلت بـ)51.3 من تعداد القوات الخاصة في المشرق، وعلى العكس كانت الغالبية السنية (التي) تشكل 57.2 من السكان، لا تمثل سوى 35.7 من الجهاز العسكري". وكان نصيب الطائفة العلوية هو الأوفر، إذ كانوا "يشكلون ثمانين في المئة من عداد الجيش، خاصة سلاح المشاة". وجاء التوزيع الطائفي والعرقي للقوات عند جلاء الفرنسيين على الشكل التالي: "العلويون 15.7% من السكان و24.4% من تعداد القوات، الأكراد 6.9% من السكان و4% من تعداد القوات، الشراكسة 1.7% و5.5%، الدروز 3.3 و6.5%، الاسماعيلية 1% و1.9%، الآشوريون-الكلدان 0.1% و9%". ومن بين كتائب المشاة الثماني العاملة في قوات الشرق الخاصة تحت سلطة الانتداب الفرنسي "تألفت ثلاث كتائب بالكامل من العلويين، ومن بين سرايا الخيالة الاثنتي عشرة التي تتوافر عنها البيانات تألفت واحدة فقط، هي السرية 24، من عرب سنّة ريفيين من دير الزور والرقة، وضمت اثنتين، هما السريتان 21 و25، بعض العناصر العربية السنيّة من قبيلة شمر أو من مدينتي إدلب وحمص، وجميع الوحدات الأخرى كانت من الدروز أو الشركس أو الأكراد أو الأشوريين أو الأرمن أو الاسماعيليين".لكن الضربة الأولى في مسار انهيار الدولة السورية لم تأت من هذا التمثيل المختل في الجيش، بل من الغالبية السنّية العربية ذاتها، وممن يلقبون اليوم بآباء الاستقلال. ففي أواسط سنة 1948، انتهت ولاية شكري القوتلي الرئاسية، ووفق الدستور لا يحق له الحصول على ولاية ثانية، إلا بعد أن يتولى الرئاسة شخص آخر، لكنه دفع فئة من أتباعه في مجلس النواب، لشن حملة لتغيير الدستور بين ليلة وضحاها، ليصبح بإمكانه الترشح مرة أخرى والفوز، وهو ما حدث فعلاً، الأمر الذي استفز الشارع السوري الذي كان سياسياً في قمة حيويته، فخرجت المظاهرات في دمشق وحلب احتجاجاً على ذلك. ومع تزامن التجديد مع الفشل العسكري الذريع في فلسطين، ووقوع النكبة، اتخذت الاحتجاجات شكل هجوم شامل على المنظومة التي بدأ الفساد ينخر رأسها. فاختار شكري القوتلي ضابطاً مبعداً من الجيش منذ زمن طويل بسبب استهتاره وفساده، هو حسني الزعيم، وسلمه قيادة الجيش وأمره بقمع المظاهرات، فنزل الجنود المهزومون في ساحات القتال إلى الشوارع، ونصبوا خيامهم في حرم جامعة دمشق، حتى أخمدوا الاحتجاجات.عندما ذاق حسني الزعيم وضباطه حلاوة السلطة، وشعروا جميعاً بقوته كحُماة للنظام، وعقب إهانة ألحقها به رئيس الوزراء خالد العظم، هي بالمعنى الرمزي تعبير عن حالة الاحتقار التي تكنها النخب المدينية السنية للنخب العسكرية الأقلوية، نفذ حسني الزعيم وثلة من أبناء الأقليات انقلابهم الشهير، ليستكملوا خيانة النخبة المدينية لـ"الدولة" الوطنية، ويوجهوا طعنة أخرى من طرفهم إلى كبدها، لتبدأ محنة سوريا التي لم تعرف الاستقرار منذ ذلك التاريخ. (يتبع..).__________________المراجع:
-غليون، برهان: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ط٢، ص١٢١ - شتيلر، كونراد: أجهزة الأمن اللبنانية والسورية: بصمة الانتداب الفرنسي، مبادرة الاصلاح العربي، ورقة بحثية، آب/أغسطس 2012.ص5. نقلاً عن عادل فريحة: الجيش والدولة في لبنان:1945-1980. المكتبة العامة للقانون وفقه القانون، لاريس، 1980، ص164.
- معروف، محمد: أيام عشتها 1949-1969، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الاولى 2003، ص 49.-جويجاتي، مرهف: إصلاح القطاع الأمني في سوريا في حقبة ما بعد الأسد، مبادرة الإصلاح العربي، ورقة بحثية، آب/اغسطس 2014، ص4، نقلا عن: قسم الأبحاث الفيدرالي، مكتبة الكونغرس، سورية، دراسة للبلاد، توماس كولليلو "الإدراة الرئيسية، قسم الجيش، الإصدار الثالث 1988"، الصفحات من ( 236-259). -بطاطو، حنا: فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم، ت: عبد فاضل و رائدالنقشبندي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بدون تاريخ أو مكان نشر، ص251. -أجهزة الامن اللبنانية والسورية، ص5. -معروف ص 56. -أجهزة الأمن اللبنانية والسورية، م.س.ص5. -بطاطو، ص25.