سلكت تعيينات رؤساء غرف محاكم التمييز التي أعلنها مجلس القضاء الأعلى، الأسبوع الفائت، طريق التواقيع الملزمة، إلى حين صدورها بمرسوم حكومي، لتصبح بحكم المنجزة. وبعد كل ما قيل عن نوع من التسويات والمقايضات السياسية والقضائية لملء شغور الهيئة العامة لمحكمة التمييز، يتقدم السؤال راهنًا: كيف ستؤثر هذه التعيينات على مسار التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت المعطلة منذ كانون الأول 2021؟ مسار التعيينات بعد تجاذبات كثيرة حول الأسماء وخلفياتها، تمكن مجلس القضاء من تعيين 6 رؤساء غرف محاكم تمييز، وهم القضاة ماجد مزيحم وناجي عيد وسانيا نصر وأيمن عويدات وحبيب رزق الله ومنيف بركات. وسيملأ هؤلاء شغور الهيئة العامة لمحكمة التمييز، بعد أن فقدت نصابها (5 من 10) بإحالة القاضي روكز رزق إلى التقاعد بداية العام الحالي.
وحسب قانون تنظيم القضاء العدلي، فإن التشكيلات القضائية يعدها مجلس القضاء الأعلى، وتصدر بمرسوم يوقعه كل من وزير العدل ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، ووزير المالية إذا كان القانون يتضمن اعتمادات مالية جديدة. ويوقعه وزير الدفاع بالنسبة لقضاة المحكمة العسكرية.
أما في التعيينات الهيئة العامة الحالية، فإن مشروع المرسوم خرج من مجلس القضاء، ووقعه وزير العدل هنري خوري، وهو حاليًا لدى وزير المالية، على أن يحال من بعد إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ثم إلى رئيس الجمهورية ميشال عون لإصداره رسميًا.
وهنا، يشير مصدر رسمي في وزارة العدل لـ"المدن"، أن التعيينات كانت خطوة لا بد منها حتى تتكمن الهيئة العامة للبت بكل الطعون ودعاوى مخاصمة الدولة المقدمة لديها في ملف التحقيقات بانفجار المرفأ. وفي حين يؤكد المصدر عدم وجود عقبات أمام صدور المرسوم، ينفي انجاز ملف التعيينات للهيئة العامة بتسوية سياسية، لافتًا أن الموضوع كان عالقًا لدى مجلس القضاء الأعلى نفسه وبين أعضائه.
وللإشارة، فإن كل القضاة المعينين لرئاسة غرف بمحكمة التمييز، هم بالأساس نواب ورؤساء محاكم استئنافية بمحافظات مختلفة. وعليه، يفيد المصدر أن المرسوم لحظ الأمر، وأبقى القضاة المعينين منتدبين بمراكزهم القديمة، تفاديًا لخلق مزيد من الفراغ في العدلية، وتاليًا، سيشغل كل منهم منصبين. حلحلة أو عرقلة؟ بالعودة إلى الوراء، حين بلغت المواجهة السياسية ذروتها وأدت لمقاطعة وزراء ثنائي حزب الله وحركة أمل لجلسات الحكومة، ومن ثم وقعت أحداث الطيونة الدامية منتصف تشرين الأول 2021، بقي الصدام قائماً على خلفية الانقسام السياسي الحاد حول قاضي التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت طارق البيطار. وتوالى سيل الدعاوى ضده، من قبل النواب والوزراء السابقين المدعى عليهم، إلى أن عاد وزراء الثنائي إلى الحكومة مطلع العام الحالي، رغم بقاء البيطار على رأس التحقيقات.
لكن ما حدث لاحقًا في شباط الفائت، هو تقديم الوزيرين السابقين المدعى عليهم، علي حسن خليل وغازي زعيتر، دعوى مداعاة الدولة (مخاصمة الدولة) ضد القاضي ناجي عيد، الناظر بطلب الرد المقدم منهما ضد القاضي البيطار. ولأن الهيئة العامة لمحكمة التمييز هي الموكلة بالبت بدعوى المخاصمة، تعطل التحقيق بانفجار المرفأ برمته، بسبب فقدانها النصاب للنظر بالدعوى.
وهكذا، أصبح التحقيق عالقًا بحكم الأمر الواقع، إلى حين اجتماع الهيئة العامة، بعد صدور مرسوم بتعيين رؤساء غرفها. وعليه، لماذا تسهيل صدور مرسوم التعيينات طالما أن قوى السلطة ليس من مصلحتها تسيير ملف التحقيقات؟ عمليًا، ثمة حالة من الإرباك وعدم وضوح الأهداف في الأوساط القضائية، إذ أن الأغلب يتساءل السؤال عينه، ويترقبون ما تبيّته السلطة السياسية، وتحديدًا قوى المدعى عليهم بالتحقيق. إذ إن المعادلات على الطريقة اللبنانية، لا تقوم على تمرير أو تسهيل مرسوم يضمر أبعاداً سياسية، من دون الحصول على ضمانات أو مكاسب. سيناريوهات عديدة يتحدث مصدر قضائي مطلع لـ"المدن" عن سيناريوهات عدة لملف التحقيقات بانفجا المرفأ بعد تعيينات الهيئة العامة للتمييز.
شكليًا، إذا اكتمل نصاب الهيئة العامة، واجتمعت سريعًا، قد تصب بمصلحة استئناف البيطار لعمله، في حال قررت الهيئة رد دعاوى مخاصمة الدولة، وهو الأمر المرجح، في حين تكف يده تلقائيًا إذا قبلت دعوى المخاصمة.
ويشير المصدر هنا، أن دعوى المخاصمة استثنائية، ولا يكفي أن ينسب للقاضي ارتكاب خطأ، بل يجب أن يثبت أن القاضي ارتكب خطأ جسيماً على درجة عالية، ومخالفة فاضحة، وهو ما يرجح خيار رد دعاوى المخاصمة كسيناريو أول، "خصوصا أننا في مرحلة تحقيق، ولم تتكون بعد طبيعة الضرر للجهة المتقدمة بدعوى المخاصمة، ما قد يجعل دعاوى مخاصمتها هشة المضمون".
لكن في سيناريو ثانٍ، قد يصطدم البيطار بدعاوى ردّ أخرى مقدمة ضده، إضافة إلى نقطة أساسية أن مجلس النواب دخل في عقد دورة عادية بعد 15 آذار، فاستعاد النواب المدعى عليهم حصانتهم.
أما في سيناريو آخر، فيرجح المصدر القضائي، مواصلة مساعي عرقلة عمل البيطار، وألا يتمكن من استكمال تحقيقاته قبل الانتخابات. أين التشكيلات القضائية؟ توازيًا، يتساءل كثيرون إن كانت التشكيلات الجزئية في محكمة التمييز، ستمهد الطريق لمناقلات عامة بالسلك القضائي، خصوصًا أن العدلية لم تشهد تعيينات منذ العام 2017. وخلال السنوات الخمس الماضية، تكاثرت المراكز القضائية الشاغرة، وأحيل عدد كبير من القضاة إلى التقاعد أو نقلوا مراكزهم، في حين يوجد عدد لا بأس به من القضاة الخريجين الجدد.
والأزمة الفعلية برأي خبراء، هي بالقانون نفسه، الذي لا يضع مهلة زمنية محددة للتشكيلات، لكنها كانت تجري عرفيًا كل عامين أو ثلاثة، وتاليًا، أضحت رهن التجاذبات والابتزازات السياسية، وتحولت تواقيع الرؤساء والوزراء للمراسيم إلى صلاحيات تعطيلية.
وهنا، يشير المصدر الرسمي في وزارة العدل لـ"المدن"، إلى أن التشكيلات القضائية العامة (المناقلات)، تتطلب اجتماع مجلس القضاء الأعلى لبحثها.
ومع صدور مرسوم تعيين قضاة غرف التمييز في الهيئة العامة، "سيكمل اثنين من رؤساء الغرف عضوية مجلس القضاء الأعلى الذي ينقص منه عضوين، رغم أن لدى المجلس نصاباً بـ 8 أعضاء".
ويلفت المصدر إلى أن الاتفاق جرى سابقًا للشروع بملف التعيينات والبحث به فور اكتمال عقد مجلس القضاء. لكن لا وقت محدداً لذلك، وقد يجري تأجيله تلقائيًا إلى ما بعد الانتخابات، نظرًا لحساسيته السياسية والقضائية، وصعوبة التوافق على الأسماء التي تشترط أيضًا التواقيع عينها، في وقت تعيش فيها البلاد ذروة الاستقطاب السياسي - القضائي.