أن يصبح حاكم مصرف لبنان المركزي فاراً من وجه العدالة، فتلك متعة لا شك فيها، وطرفة يحتاجها المسرح اللبناني المفتوح، بمشاهده العجيبة..حتى ولو جاءت في الوقت الفاصل، أو الاخير الذي يسبق إسدال الستار.
وأن يصبح الحاكم كبش فداء لطبقة سياسية مشبوهة، أو متهمة، تحاول أن تتفادى العدالة، فتلك مسألة فيها الكثير من النظر.. في الزاوية المعتمة التي وقف فيها رياض سلامة ولا يزال، وحجب الرؤية عن واحد من أخطر أسرار الازمة الراهنة.
ثمة ما هو غريب فعلا، في كون الرجل الذي ينتظر الآن موعد تكبيله ودفعه بين لحظة وأخرى الى قفص الاتهام، لم يكن كما يبدو يتوقع هذه النهاية. وهو عيب خطير يمس كل ما قيل عن خبرته السياسية والمالية والاقتصادية. وثمة من يلمح الى أن تلك الخبرة لم تكن بقدر ما أشيع، وهي مبنية فقط على التواطؤ مع القوى السياسية الحاكمة. وهو لذلك، ما زال يكابر، علّه يستعيد حريته، بمساعدة من واحد أو أكثر من كبار المسؤولين المتواطئين معه.. من دون أن يلاحظ أن هؤلاء ما عادوا يجرأون حتى على الدفاع العلني عنه، بل باتوا يعتبرونه عِجلاً جاهزاً للذبح في الوقت المناسب.
وهذا الوقت المناسب ليس الآن بالطبع، ولا قبل الانتخابات الرئاسية في 31 تشرين الاول المقبل، حين يفترض أن يختار الرئيس المقبل للجمهورية الحاكم الجديد لمصرف لبنان.. وهي فرصة لرياض سلامة، لكي يختار بين أن يظل ملاحقاً ، ومتوارياً، وبين أن يخرج الى الضوء ويؤدي المشهد الاخير الذي طال إنتظاره، والذي يكشف فيه ما لديه من أسرار، يمكن لبعضها فقط أن يحميه من السجن.
لكن يبدو أن سلامة ليس على هذا القدر من الشجاعة(التي يتردد أنها يمكن أن تعرضه للقتل). وسلوكه الحالي لا يوحي بأنه يمكن أن يرد على اسئلة بسيطة، في أي تحقيق جنائي تمهيدي، مثل سبب تصعيد الحملة ضده، في الوقت الذي تمكن فيه من وقف إنهيار قيمة الليرة ، وخفض سعر الدولار بمعدل الثلث تقريباً..ونقل المعركة من جبهة المصارف المحاصرة بالإتهامات، الى جبهة التجار المتفلتين من كل قيد أو ضمير.
طبعا لا يستحق رياض سلامة الشكر على هذه الخطوة، فهي أقل الواجب الذي كان يفترض القيام به منذ سنتين أو ثلاث أو خمس سنوات. مثلما لا يستحق الشرح ذلك الجمهور الذي يعبر اليوم عن الخوف الشديد على مصير الاحتياط الالزامي، مع أنه في غالبيته الساحقة ليس من المودعين، ولا هو من زوار المصارف ولا حتى من المارين أمام واجهات فروعها المنتشرة في كل مكان. ولا يمكن لأي منهم أن يدّعي أنه يتضامن مع صغار المودعين الذين سحقتهم الازمة.
ما يثير الحيرة في سلوك هذا الجمهور الخائف من تدخل الحاكم في سوق العملة، أخيراً ، هو أنه يؤكد الانطباع بأن غالبيته غير راضية فعلاً عن تراجع سعر الدولار، الذي كان مرشحاً لبلوغ الاربعين والخمسين ألف ليرة، في غضون الأسبوعين الماضيين، كما كان مرجحاً أن يصل الى أرقام فلكية قبل موعد فتح صناديق الاقتراع النيابية ثم الرئاسية. وهو موقف لايمكن أن ينسب فقط الى كون شريحة واسعة من اللبنانيين تعيش على تحويلات بالعملة الاجنبية من الخارج، بقدر ما يعزى الى نقص فاضح في الحس الاجتماعي والانساني، وخلل فادح في الحس السياسي الذي لا يدرك معنى الغلاء المعيشي ولا دوره في إنهيار البلد وتفكك مؤسساته، والاثمان الباهظة التي سيدفعها اللبنانيون لاحقاً.
مع ذلك، لا آسف على إستمرار ملاحقة الحاكم، بغض النظر عن الجهة أو الجهات او الدول التي تلاحقه..على أمل أن ينطق بالشهادة التي طال ترقبها، وما عاد بالامكان إنتظارها، حتى تعيين حاكم جديد، من قبل رئيس جديد جداً.