2024- 06 - 03   |   بحث في الموقع  
logo هذا ما ستناقشه قمة باريس.. logo من يدفع الحبتور للتراجع عن الاستثمار بلبنان؟ logo وثائق "غوغل": هكذا تظهر الخوارزميات الأخبار في رأس البحث logo بالصوره: احراق سيارة ليلا في عكار logo في آخر يوم لتقديم الطلبات... رئيس البرلمان الإيراني يترشح لرئاسة البلاد logo الجيش الإسرائيلي يُعلن مقتل 4 أسرى لدى حماس logo باقري كني: العلاقة مع لبنان شاملة وما يروج له للتطبيع بين إسرائيل ودول بالمنطقة ليس إلا خطة فاشلة logo باقري كني: العلاقة بين إيران ولبنان علاقة شاملة
قليل من الويسكي.. كثير من القهوة
2022-01-29 12:57:16

قصة
أحثّ السير قُدماً لأطمئنّ على آخر أخبار الصفحات التي سوّدتها وأودعتها شركة متخصصة في التنضيد والطباعة؛ النتيجة كانت كارثية بالتأكيد، كما عهدي بهذه المهنة والعاملين فيها. أتقدّم خطوات باتجاه أحد المقاهي، فأطلب فنجان قهوة ساخنة مع الحليب على غير عادة، لتهدأ أعصابي ولأتلافى تناول حبّة من المهدّئ الذي تجرّعت منه حبوباً عديدة في الأيام القليلة المنصرمة، فخفت ألا يعود لها مفعول عليّ إذا ما أدمنتها أو أعتاد دمي على تركيبتها الدوائية. هدّأت من روعي قليلاً بإراحة نظري وبالي والانشغال بما يجري في المقهى، فلمحت فتىً توظف في المقهى منذ زمن وهو من جبال بلد مجاور، هبط منها إلى بيروت مباشرة من دون أن تتسنّى له زيارة أيّ مدينة أخرى في بلده أو في لبنان، على ندرة المدن فيه بسبب قربها إلى منطق البلدات الكبيرة منها إلى المدن. وجدته يتقدم رويداً رويداً في إجادته للغة الإنكليزية التي يتعمّد محادثة الزبائن بها، زبائن المحل، أو مَن يلتقيهم من روّاد المقهى الذي يعمل فيه، صدفة في أي شارع يرتاده من محيط المقهى الذي انتقل للسكن بجواره مع ثلّة من عمّال بلده، إذ حرص على التأقلم مع هذا المكان والتكيّف معه، في عاداته وتقاليده وأزيائه؛ فكلّ ما يدلّ على قرويته ومكان ولادته يقوم بمحوه كي لا يتعرف إليه أحد على أنه من تلك البلاد، في عملية إنكار ونكران قلّ نظيرها. كنتُ أنجذب لهذا النموذج الذي يذكّرني بصباي ومراهقتي، وبداية صداعي مع الهويات الواجب على جسدي وروحي أن يرتاحا لها، فكنتُ أحرص على فتح أحاديث جانبية مع الشاب كلّما أتيحت لي الفرصة، فسألته بعدما اقترب منّي سائلاً إن كنتُ سأطلب أي شيء إضافي، فبادرته قائلاً: أنت تجيد الإنكليزية أليس كذلك؟ فسألني: لماذا؟ فقلت: لقد قضيت في بيروت جلّ عمري ولم أتعلّم حرفاً واحداً تقريباً؛ لا بدّ أنك تعلّمتها في المدرسة في بلدك. ارتبَك الشاب من سؤالي ظاناً أنّي أهزأ منه، لأنه يتحدث الإنكليزية بتلعثم وبأخطاء فادحة في النحو والإعراب كما قيل لي، ومع ذلك كنت مُعجباً بأن هذه العقبات لم تفتّت إصراره أو تضرّ بعزيمته على التغلب عليها. فأجابني والغضب ظاهر عليه: إني أتعلّمها من الكوستمر والموفيز، متابعاً: هل تريد الكوفي في البيبر كابس أم في كوب زجاج؟ وبعدما استفسرتُ منه عما يقصده من كلامه هذا، أنهى حديثه معي بأن قال: مشروبك اليوم على حسابي؛ وبالفعل تقدّم بعد بضعة دقائق حاملاً فنجان القهوة في فنجان على صحن من البورسلان؛ وبدلاً من أن يضعه على الطاولة مدّ يده بطولها كلّه متجاوزاً عرض الطاولة التي تفصلنا عن بعضنا البعض، فأمسى الفنجان على صدري تماماً؛ وما إن شرعت في لمس صحن فنجان القهوة حتى أفلته من يده، فتبلّلت بالقهوة الساخنة من الأعلى إلى الأسفل؛ فكلّفني فنجان القهوة المجّاني، والمقدّم هديّة لي، أكثر من أربعين دولاراً بدل تنظيف للثياب والحذاء في المصبغة.
غادرتُ المكان واتجهتُ إلى مقهى ورستو ليلي. اعتدتُ في هذه الأماكن التي أزورها أن أتلقى حسومات إضافية وضيافات على أنواعها، نظراً لسوء أحوالي المالية، واعتباري من قِبل أصحاب هذه الأماكن أني لزوم ما لا يلزم، خصوصاً مع مظهري الذي يدعو للرثاء في هناديم غير منسّقة وغير مكويّة وغير متناسقة أو مرتّبة، رغم ماركاتها الظاهرة التي صدّقتها كفقير رغم أنها صُنعت ليصدّقها الأغنياء، على حد ما ذهب إليه أحد وزراء جمهورية فرنسا السابقين، وأعتقد أنه وزير الصناعة والتجارة. ومع أني أقتني هذه الماركات بعد أن يرتديها أصدقائي ويهبونني إيّاها فور بطلان موضتها، إلاّ أنها تمتاز عن تلك الشعبية التي من دون ماركة، بالشعور بالراحة وأنت ترتديها، ولأقمشتها الممتازة التي لا تسبب أي إزعاجات لأصحاب البشرات الحساسة مثل بشرتي، والتي تصيبها رعشة وحكاكاً وشعوراً بوخز الإبر إذا ما ارتديت الثياب رخيصة الثمن.. المهم، ما إن وصلت واغتسلت من حمّام القهوة الذي تكرّم به عليّ صديقي النادل في المقهى، وما إن جلست وتموضعت على البار في مكاني المعتاد، حتى تقصدت فتاة، وأمام حضوري الكامل جسدياً ومعنوياً، بأن تفتح سحابة جزدانها وتتناول منه البورت مونيه وتنتزع رزمة من فئة الألف ليرة، محاولةً وضع المال على مرأى منّي في صندوق «التيبس»، وفتحت حديثاً في أثناء ملامسة يدها للصندوق والمال معاً، وقبل أن تسقطها، أي رزمة الآلاف من الليرات، مفاده أن الأوضاع المادية ما عادت تُطاق، وأن المرتّبات ما عادت تكفي ليعيل الفرد نفسه، فما بالك بالعائلات. وكان عامل البار، وهو صديق لها أو أحد عشّاقها لا أدري، يوافقها الحديث ويورد أمثلة تؤكد كلامها عن غلاء الأسعار، خصوصاً لبديهيات العيش. وعندما ضُبطتُ ساكتاً، أنزلت الآلاف في الصندوق وسألتني عن رأيي؛ فأجبتها بأن أدرت وجهي موجّهاً حديثي لعامل البار، طالباً نصف كأس ويسكي، على أن أشرب النصف الثاني فور انتهائي من ارتشاف النصف الأول، وهي عادة اكتسبتها من إحدى الأجنبيات، عندما كنتُ عاملاً في أحد المقاهي، إذ أوصتني بأن أقدّم لها المشروبات بمقادير قليلة لتستمتع بارتشاف ما يقدّم لها. وبالفعل، تقدم منّي النادل، وناولني ما مقداره ثلاثة أرباع الكأس، أي أنه كان كريماً معي على غير العادة معي. لا أؤمن بمبدأ «التيبس»، أو البقشيش، وليس بإمكاني دفعه، خصوصاً متى كنت من الزوّار الدائمين والمداومين يومياً في الحضور؛ كما أن الحسومات تجري لي بناءً لتوصيات مفترضة من الأصدقاء وأصحاب المحلات.
ما إن شربتُ جرعتين أو أكثر، حتى شعرت بدوّار شديد وبأنّي لست على ما يرام. ذهبت إلى المنزل من فوري وتناولت دوائي المخصص للسكيزوفرينيا وذهاناتها وغفوت، لأصحو في منتصف الليل غير واعٍ لما جرى ويجري معي؛ ذهانات وهذيانات، والأرض تدور في رأسي وتحت سريري. تناولت الهاتف واتصلت بصديقي شارحاً له ما جرى، مستفسراً منه إذا كان الأمر يتعلق بشيء من المخدّرات دُسّ لي في كأسي أو ما شابه؛ فقال لي: من المستحيل أن يفعلوا ذلك، حتى ولو لم تكن محبوباً. ربما تكون زجاجة الكحول مغشوشة، لا أدري، لكنّها لا تفعل هذا الشيء؛ نهضت من فراشي، وبعدما هدأ روعي بدأت عضلات يديّ وساقيّ بالارتجاف؛ جلست لهنيهة ووضعت ركوة القهوة على النار، لقّمتها، وجلست أنتظر انبلاج فجر يوم جديد يبدّد ما أنا فيه من ارتياب.
عند الصباح غفوت قليلاً. انتزعتُ جسمي من فراشي ويمّمت وجهي صوب مطعم قريب، بعدما استعدت عافيتي ومزاجي الرائق؛ وهذا المطعم أدخله للمرّّة الأولى، فسألت العامل ممازحاً: ماذا لديك من أطباق يومية، وانتقيت صحناً وقلت له: لنذبح هذا الصحن. فجأة، شعرت بحركة غريبة حولي. غادرتُ المكان ريثما يأتي الصحن اليومي، ويهدّئ الشيف من روع العامل الذي مازحته، قائلاً له إنها كلمة عابرة. لاحقاً، وكلّما زرتُ هذا المطعم، فُرضت عليّ حراسات مشدّدة، مثل ذهاب وإياب العاملين بطريقة مقصودة من أمامي، مع أن الطاولة التي أنتقيها هي في زاوية مهملة، ومن غير المفروض أن تطأها أقدامهم أبداً إلاّ بعد مغادرتي. لاحقاً، وكلّما خرجت من عندهم، أصيبت معدتي بالتقلصات وعسر الهضم والغازات، من جميع الأطعمة ومن اللقمات الأولى على ما يُقال، إذ كان دواء الميجافستريل (إذا كان اسمه صحيحاً)، رفيقي الدائم أثناء تناولي وجبات طعامي من عندهم، فصرفت النظر عن ارتياده نهائياً. يبدو أن هذه هي طريقتهم وأسلوبهم في إفهامي أنّي غير مرحّب بي. المفاجأة أن محلّهم دائم الازدحام، والأكيد أن معِدات الآخرين ليست أقوى من معدتي التي فوجئ صديقي بقدرتها على قضم الليّن والقاسي من المكسّرات وبقيّة الأطعمة وهضمها عندما نجلس على كأسين لي وله من دون ثالث.قرّرت أن أتناول طعامي في مطعم آخر. سألته أن يضيف قليلاً من الحوائج إلى السندويش الذي يقدّمه لي، على أن أدفع له الفارق لأنّي لمست فقراً في موادها. كانت النتيجة عبارة عن صاروخ قياسي مهول في سماكته تناولته رغماً عنّي، مع نكهات غريبة من البهارات والحوائج.سألت صديقي، فقال: إذهب وتناول طعامك عنده في المرّة المقبلة وقل له إنّّي بأمرك، فهو يشبه أحد باعة اللّحمة في منطقة الكولا في الثمانينات، الذي كان يفرض علينا ذوقه في ما يجب تناوله من عدمه في الفصول والأيام الباردة والحارّة، وماذا يوضع من حوائج في كل صنف، وممنوع علينا إبداء رغباتنا عليه، وهكذا كان. وبالفعل، ألقيت التحية عليه وقلت له في قلبي: سقا الله أيام طيبتك عندما كنتَ عاملاً وافداً جديداً إلى البلدة، وقبل أن تمسي من شركاء المحلاّت، ورفعت صوتي وقلت: أنا بأمرك، على مسمع من الجميع، فلم يُجب، فأمليتُ عليه طلباتي فلبّاها بعدما ناولته ثمنها.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top