رحلت المغنية اللبنانية فدوى عبيد عن هذه الدنيا، بعدما غابت عن الساحة الفنية منذ سنوات طويلة. ومع غيابها، عاد الحديث عن مسيرتها وعن نتاجها الفني، وتوالت الأسئلة: متى بدأت فدوى عبيد بالغناء، وكيف انطلقت؟ متى لمع اسمها؟ ولماذا احتجبت في نهاية السبعينات، ولماذا دخلت في الظل منذ تلك الفترة؟
في نهاية العام 1964، نشرت مجلة "الكواكب" المصرية مقالة عنوانها "تلفزيوننا يتبنّى فنانة من أميركا"، وهذه الفنانة هي فدوى عبيد، وقد تبناها المخرج التلفزيوني محمد سالم، وأعلن انه سيقدّمها في برنامجه على الشاشة بوصفها "الوجه الجديد رقم 18"، وأكّد بأنه يجري معها بروفات تمهيدية لذلك. وكتبت المجلة في تعليقها "فدوى لا تُعتبر وجهاً جديداً، لكنّه جديد بالنسبة لنا. وصوتها يجمع مميزات عديدة، فيه إحساس نجاة، وخفّة صباح، وقوة أداء فايزة أحمد. سيلحن لها محمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل. عبد الوهاب استمع إليها، وأعجب بصوتها، لكنّه لن يكون البادئ".
تحدّثت فدوى عن بداياتها، وقالت انها هاجرت من موطنها لبنان إلى الولايات المتحدة وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وكان أبوها قد سبقها إلى هناك، "وانضم إلى الجالية اللبنانية في الأرض الجديدة". في أميركا، بدأت مشوارها الفني حيث كانت تغني للجاليات العربية في حفلات خاصة وعامة، وكانت لا تزال في السنة الثانية من المدرسة الثانوية حين غنت "سلوا قلبي" وغيرها من أغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، وبعدها غنت من النتاج اللبناني لصباح وفيروز ووديع الصافي، كما غنت من نتاج عبد الوهاب وعبد الحليم. ولم تنقطع عن الدراسة، فدخلت جامعة ميشيغن، وتخصصت في دراسة علم نفس الأطفال، وكانت في إجازة نهاية الأسبوع، تسافر وتغني في أماكن مختلفة، إلى أن تخرّجت في الجامعة، فاختارت التفرّغ للغناء، وكان أول من لحن لها أغنيات خاصة بها، جليل عزوز ومحمد العقاد. وعزوز عازف فلسطيني هاجر إلى أميركا واحترف العزف هناك. أما العقاد، فكان عازف القانون في فرقة عبد الوهاب أيام زمان، وقد رحل كذلك إلى أميركا واستقرّ فيها.
في السادسة عشرة، سجلت فدوى عبيد "يا ليل أين حبيبي" من تلحين جليل عزوز، ثم اتجهت إلى الغناء اللبناني، وقدمتها الإذاعة العربية الأميركية، ثم قدمها التلفزيون الأميركي ضمن برنامج "جاك بار" في الوصلة المخصصة لـ"فنون الشعوب"، وأدت في هذا البرنامج مجموعة من الأغاني العربية، ثم بدأت تغني بالإنكليزية، غير انها شعرت بأن هذه اللغة لا تتلاءم مع أحاسيسها العربية. هكذا شقّت فدوى عبيد طريقها في أميركا، وأحيت العديد من الحفلات، وسجلت عدداً من الأسطوانات، قبل أن تحطّ في القاهرة التي احتضنتها و"احتوتها" وقدّمتها كفنانة عربية من أميركا "أصلها لبناني". تتلمذت على يد محمد الموجي لتغني من ألحانه ومن ألحان سواه، وقدمها محمد سالم في برنامج التلفزيوني كوجه جديد، كما انها استعدت لتجري اختباراً في الإذاعة على أساس انها مطربة محترفة، وقالت بهذه المناسبة أنها كانت تتمنى أن تغني أغنيتين "انا قلبي اليك ميال" لفايزة أحمد و"خلقت جميلة" لزكية حمدان، وأن أول أغنية ستسجلها في القاهرة أغنية لبنانية مطلعها "واقف على شط البحر".
ختمت فدوى عبيد حديثها إلى مجلة "الكواكب" بالقول إن "أمنيتها أن تصبح مشهورة في العالم العربي وأن تتزوج وتعيش في القاهرة"، واستقرّت هناك. في ربيع 1965، أطلق فريد الأطرش الفنانة الشابة على المسرح في حفلة أحياها بمناسبة "عيد الربيع"، وغنّت فيه من ألحانه "مالو الحلو مالو"، وقيل يومها: "الثروة الجديدة هي المطربة لبنانية الأصل فدوى عبيد، لقد استقرّت بين يدي فريد الأطرش، بعدما غنت من ألحانه في عيد الربيع قطعة خفيفة تجاوب معها الجمهور بسرعة. وقرر فريد أن يحتضن فدوى عبيد ويتبناها، ويطلقها في عالم الأضواء والشهرة". وقال فريد بهذه المناسبة: "فدوى، خامة أصيلة وصوت جميل. صوت هادئ وناعم. وسيكون له شأن كبير لو وجد الرعاية الصادقة والألحان المناسبة".
في صيف 1965، قيل عن فدوى عبيد إنها "المطربة لبنانية الأصل، المهجرية النشأة، المصرية الإقامة". في القاهرة، تعرفت الفنانة الشابة على جميع العاملين في الوسط الفني، ودخلت الإذاعة المصرية، وغنت من ألحان الرياض السنباطي من كلمات حسين السيد "حبك على جبيني قدر"، ثم غنت من ألحان الموجي "لو نسيت الذكريات"، وبعدها غنت من ألحان بليغ حمدي ورؤوف ذهني وعبد العظيم محمد وأحمد صدقي وفؤاد حلمي. كما شاركت فريد الأطرش غناء قصيدة "يا بلادي" من كلمات عبد الجليل وهبي. واصلت المطربة الشابة نشاطها الفني، وبعد سنتين عادت فجأة إلى أميركا هرباً من مظاهر "الحقد والغيرة والكومبينات" التي تسود في الوسط الفني، كما صرحت حين تركت أميركا لتستقر في بيروت في 1968.
بعد استقرارها في بيروت، سجلت مجموعة كبيرة من الأغاني، منها "هيلا هوب" من كلمات توفيق بركات وألحان فيلمون وهبي، "ساكت واللا عندك جواب" لسامي الصيداوي، "رح ترجعو" من تأليف اسعد سابا وتلحين عفيف رضوان. كما سجلت قصيدة "السلام" من نظم عبد الله شمس الدين وتلحين السنباطي، و"عش انت وحدك" من نظم عمر الحلبي وتلحين سهيل عرفة. وأنتجت شركة فيليبس سلسلة من هذه الأغاني في أسطوانات. في العام 1971، دخلت فدوى عبيد عالم المسرح الغنائي من الباب العريض مع "فرقة الأنوار" في جبيل، وغنت من ألحان وليد غلمية مجموعة من الأغاني الجميلة لا تزال حية في الذاكرة الجماعية إلى اليوم، غير ان هذه لتجربة لم تتكرّر.
بعد بضع سنوات، دخلت فدوى عالم المسلسلات التلفزيوني، وشاركت محمود سعيد بطولة مسلسل "عليا وعصام"، وهو مسلسل بدوي فصيح من تأليف نزار مؤيد العظم، قدمت فيه مجموعة من الأغاني لحنها محمد محسن. من تلحين محمد محسن كذلك، قدمت فدوى مجموعة كبيرة من القصائد في مغناة إذاعية طويلة جمعتها مع وديع الصافي، عنوانها "مالك ابن ابي السمح". على المستوى الشعبي، حققت فدوى عبيد النجاح الأكبر مع أغنية "أكتر ما بدو وبدي" من كلمات ميشال طعمة ولحن ملحم بركات. وصدرت هذه الأغنية في أسطوانة ضمت على الوجه الآخر أغنية من ألطف ما غنته، عنوانها "على وين"، من كلمات علي الحبروك ولحن سيد مكاوي.
زارت فدوى عبيد، مصر، في منتصف السبعينات، واستضافتها نجوى ابراهيم في برنامجها التلفزيوني "زائر المساء". سجلت في هذه الحقبة مجموعة من الابتهالات الإسلامية من تلحين السنباطي والموجي وعبد الفتاح منسي ومحمد محسن، كما سجلت مجموعة كبيرة من الأغاني المتنوعة ضمن ما يُعرف بالإنتاج الإذاعي. في مطلع 1978، قيل إن فدوى عبيد ستعود إلى أميركا "لتدخل القفص الذهبي مع الرجل الذي اختارته شريكاً لحياتها"، وقيل انها تفاهمت مع صاحب الحظ السعيد على كل شيء "إلا على قضية الاستمرار بالغناء، التي قالت إنها ستتركها مرهونة بأوقاتها".
احتجبت فدوى عبيد في الثمانينات، وعاد اسمها للتداول من خلال المواقع الموسيقية التي تحفل بها شبكات التواصل الاجتماعي، وظهرت من خلال هذه المواقع مجموعة كبيرة من أغانيها المجهولة، غير أن القسم الأكبر من نتاجها الفني ما زال سجين الإذاعات والتلفزيونات العربية.