يطلّ السيّد الرئيس من عليائه على الساحات المسكونة بالفراغ، ويبكي. في قصره سجّادة فارسيّة ترمقه شزراً بألوانها البرتقاليّة الصمّاء.
في هذه الجمهوريّة الصغيرة حيث تزحف العناكب ببطء وثقة، ويعيث الفاسدون فساداً، يصرخ فلا أحد يأبه، وينادي فلا أحد يسمع. قبل نحو سنتين، دعا «الثوّار» إلى الحوار معه. دعاهم إلى فنجان قهوة عربيّة من صنع طبّاخ القصر كي يفهم لماذا يثورون، ولماذا يسبّونه في الشوارع. لكنّهم استأذنوا شاعر القطرين خليل مطران، ولم «يلبّوا النداء عجالا».واليوم يدعو العقارب الجاثمة في جحورها إلى جلسة حوار. لكنّ العقارب المتثاقلة في باطن الأرض لا تريد أن تخرج، بل تستهزئ به، ثمّ تعود لممارسة شؤونها اليوميّة كأنّ شيئاً لم يكن.
يحار السيّد الرئيس في أمر هذه المخلوقات الخسيسة التي تسكن جمهوريّته الصغيرة. لقد زمّر لها فلم ترقص، وناح لها فلم تلطم، كما قال عيسى المسيح عليه السلام. تقاطعه، تحوك المؤامرات ضدّه، تتوخّى إسقاطه، بالخطابات والإطارات المشتعلة، بالأمراض والفيروسات، باللغة وبالصمت. لكنّه حلف بشرفه وبالأرز العتيق أنّه لن يرحل، ولن يبارح، ولن يستقيل. فهو صامد مثل مارد يضحك للريح، ثابت مثل الجبال التي تناطح الغيم، يضرب جذوره في الأرض كشجرة جوز عتيقة. لماذا هو حزين إذاً؟ ولماذا يجهش بالبكاء كلّ صباح، وكلّ مساء قبل الخلود إلى النوم؟ السبب واضح لا يختلف عليه اثنان. فهو مصاب بالوحدة. والوحدة داء لا دواء له يُستطبّ به. لقد انفرط عقد الذين كانوا حوله، وتفرّق ندماؤه، وانسلّ الشقاق إلى أهل بيته كما في الأساطير اليونانيّة القديمة. والذين ما زالوا يأتون إليه يشبهون الصمت حتّى حين يتكلّمون، ويشبهون الأسئلة حتّى حين يجاوبون. وكلّ هذا يضاعف وحدته ويحوّلها إلى غيمة سميكة، كثيفة السواد، تطبق على صدره وتصيبه بشيء غامض يشبه الاختناق. أمّا الناس الذين كانوا يهتفون له بطول العمر قبل خمس من السنوات، فقد تسلّل الجوع إلى مطابخهم الخاوية، ودلف البرد إلى مواقدهم المطفأة، وزيّح اليأس محاجرهم الجاحظة كأنّهم جيفٌ خرجت لتوّها من لوحات دولاكروا. يطلّ السيّد الرئيس من عليائه على الساحات المسكونة بالخواء، ويبكي.
في قصره تمثال رومانيّ بيروتيّ المنشأ لا يتحرّك مرمره الجامد للكآبة التي تغلّف القصر كأنّها كتلة من ركام.
أمّا في البعيد، فثمّة مواطن يراقب المشهد ويغرق في صمت أخرس، إذ لا يعرف على من يُشفق: هل يُشفق على نفسه أم يُشفق على رئيس جمهوريّته…