تُنبئ الحركة السياسية والمالية في اليومين الماضيين بأن المنظومة السياسية نجحت في إعادة إنتاج نفسها. وللوصول إلى هذه الخلاصة وتفسيرها، لا بد من تسجيل جملة من الخطوات التي حصلت.لماذا تشكلت الحكومة؟
أولاً، تسوية تشكيل الحكومة بمشاركة معظم القوى السياسية التي تمثل الكتل النيابية، باستثناء القوات اللبنانية.
ثانياً، سرعة إنجاز البيان الوزاري الذي تركت فيه مساحات واسعة لاشتباكات سياسية لها سوابقها: خطة الكهرباء، التدقيق الجنائي، البطاقة التمويلية أو استبدالها بزيادة الرواتب، في تكرار لتجربة سلسلة الرتب والرواتب التي مهدت لانهيار مالية الدولة.
ثالثاً، اللقاءات التي عقدها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي.
رابعاً، حركة رئيس جمعية المصارف سليم صفير في اتجاه رئيس الجمهورية ميشال عون واللقاء به، وإعلانه عن استعداد المصارف العمل على مساعدة الاقتصاد اللبناني على النهوض.
هذه الخطوات خلاصتها واحدة: تشكيل حكومة نجيب ميقاتي جاء نتيجة عوامل داخلية وخارجية. الخارجية أصبحت معروفة: الضغط الفرنسي-الإيراني مقابل غض النظر الأميركي والانكفاء الخليجي.
أما العوامل الداخلية فثلاثة أساسية: أولاً، إبلاغ رئيس الجمهورية من الداخل والخارج أن فشل ميقاتي يحمِّله مسؤولية تعطيل مهمة ثلاثة رؤساء حكومة مكلفين. وهذا يرتد سلباً عليه شعبياً، إضافة إلى الموقف الدولي السلبي منه. ثانياً، إصرار ميقاتي على إنجاز المهمة وتشكيل حكومته بناءً على مجموعة تقاطعات. وثالثاً، موقف حزب الله الذي يجد أن الحكومة أفضل من عدمها.حاجة نصرالله إلى الدولةوقد تدرج حزب الله في وصوله إلى هذه النتيجة على مدى السنتين الماضيتين. فإبان ثورة 17 تشرين قال نصرالله إن حزبه وبيئته لن يتأثرا، وأخذ على عاتقه قرار حماية النظام والمنظومة. وفي ما بعد تراجع لصالح توفير عوامل حمائية، من خلال المساعدات وبطاقة السجاد، وصولاً إلى استقدام المحروقات من إيران. وهنا كانت معادلة أن الجميع يتأثر، ولكن حزب الله يبقى قادراً على الصمود.
أما التغيّر الأخير فجاء بوضوح على لسان نصرالله: حزب الله غير قادر على الحلول مكان الدولة، واستقدام المحروقات هدفه التخفيف من الأزمة. ما يعني أن الحزب إياه يتأثر بالأزمة ولا بد من وجود حكومة تتحمل عنه الكثير من الأعباء.
طبعاً، أي حكومة لن تكون قادرة على القطيعة مع حزب الله، أو التعارض مع سياسته الخارجية. وليست مشهدية إدخال صهاريج النفط الإيراني إلا دليل على التكامل بين دور الحزب ودور الدولة، وهو بحاجة ماسة إليها.
وهذا التغير أو التراجع في مواقف حزب الله انسحب أيضاً على حلفائه، وخصوصاً ميشال عون وجبران باسيل، من خلال الانخراط في الحكومة واتخاذ قرار منحها الثقة.ضرب قوى الطائف والسيطرة على المصارفصحيح أن عون وباسيل فرضا شروطاً لتمرير التسوية الحكومية. لكن المسألة الأبعد هي شكل من أشكال الصراع بين أركان الطائف، السياسيين والماليين والمصرفيين، وبين حزب الله وعون بالتكافل والتضامن. وهما سعيا منذ تشكيل حكومة حسان دياب إلى اتخاذ جملة إجراءات من شأنها إسقاط الآلية السابقة لتكوين السلطة، واتخاذ القرار السياسي والإداري والمالي.
وجاءت حكومة حسان دياب بنزعة واضحة: ضرب القوى السياسية التقليدية أو قوى الطائف، إضافة إلى ضرب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والقطاع المصرفي، ووصولاً إلى وضع عنوان أساسي: "إعادة هيكلة القطاع المصرفي". أي إعلان إفلاس مصارف كثيرة والذهاب إلى دمجها.
والغاية من ذلك كانت نقل هذا الكنز من تحالفه مع قوى سياسية محددة، إلى قوى أخرى. بمعنى أن عون وحزب الله أرادا الدخول إلى القطاع المصرفي والسيطرة عليه، منذ اتخاذ حكومة حسان دياب قرار تعيين أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان ونواب الحاكم.تعويم سلامة والليرة وفشلت هذه المحاولات، ودخل لبنان في فراغ حكومي قاتل لأكثر من سنة، حتى أعيد إنتاج تركيبة حكومية على المنوال السابق، ووفق القواعد السابقة، مع ترك هوامش ومجالات للصراع السياسي القائم. وهذه حال العلاقة المتوترة من الآن حتى موعد الانتخابات النيابية بين التيار العوني من جهة ورئيس مجلس النواب نبيه برّي وسعد الحريري من جهة أخرى.
ويفترض أن التسوية الحكومية أعادت التطبيع مع القطاع المصرفي، وربما مع حاكم مصرف لبنان. صحيح أن عون لا يزال ينتهز أي فرصة للإطاحة بسلامة، سواء بقرار سياسي حكومي، أو بقرار قضائي نتيجة مخالفات. وعندما فاتح عون ميقاتي بهذا الأمر أجاب الأخير أنه لا يمكن إقالة الحاكم إلا في حالتين: قرار قضائي أو حالة مرضية تثبت عدم أهليته. وعاد رياض سلامة ليدخل في اللعبة، من خلال عملية تخفيض سعر صرف الدولار. واكتشف فجأة القدرة على فتح اعتمادات لبواخر محروقات وفيول حتى آخر من أيلول. وجاء هذا القرار بعد لقائه مع برّي وميقاتي، وبعد لقاء سليم صفير بعون.رفع الدعم بالتقسيطوعليه شرع المصرف المركزي بعملية المضاربة لتحسين سعر الليرة، تمهيداً لرفع الدعم عن المحروقات. وذلك على نحو لا يجعل القرار مدوياً على اللبنانيين. كأن يرتفع سعر صفيحة البنزين مثلاً بنسبة 50 في المئة، فيصبح سعرها بدلاً من 126 ألفاً، بين 180 أو 200 ألف. وقع ذلك أسهل على اللبنانيين من أن يتجاوز سعر الصفيحة 300 ألف ليرة. على أن تكون مسؤولية أي ارتفاع لاحق في سعرها على إيقاع ارتفاع الدولار، ولا تتحمل مسؤوليته الحكومة ولا السلطة إنما واقع السوق، وأشباح المهربين والمحتكرين.
إنها اللعبة التقليدية اللبنانية تستعاد بأدوات تقليدية وأخرى مختلفة. ولكن في ظروف غير تقليدية على الإطلاق، في انتظار موعد الانتخابات، والصراعات التي ستخاض على أساسها والتحالفات التي تتشكل على هوامشها، للوصول إلى آلية جديدة لإعادة تكوين السلطة.