ليست مصادفة أن يحيط الغموض إطلاق المنصة الإلكترونية الجديدة. ولا هو سهو من قبل مصرف لبنان غياب أي بيان أو إعلان رسمي بإطلاق العمل بها.. إنما الفوضى القائمة والإرباك وعدم الوضوح حيال إطلاق وسير عمل المنصة، هو أمر مدروس ومتعمد من قبل مصرف لبنان. والسبب شراء الوقت لمحاولة إحياء المنصة التي قضت فور إطلاقها وقبل انطلاقها فعلياً. وليست محاولة إحيائها بالمهمة السهلة. فمحاربوها كثر ويأتي على رأسهم "كارتيل" كبرى المصارف. فلماذا تحارب بعض المصارف انطلاق المنصة؟ وهل انطلق العمل بها فعلياً؟ من هو المعنيون بالتداول عبرها؟ ما هو سعر الصرف الذي انطلقت منه؟ عشرات الأسئلة تطرح يومياً حول المنصة الإلكترونية.. ولا أجوبة رسمية عليها، سوى جواب واحد حسمه دولار السوق السوداء، الذي بصعوده المستمر نسف نظرية المنصة، وإن مرحلياً.يتهرّب مصرف لبنان من الإجابة على أسئلة الجمهور، في بيان أو تعميم، يوضح فيه آلية وسير عمل المنصة وتفاصيل التعامل عبرها، والفئات المخوّلة بيع وشراء الدولار من خلالها، وسعر صرف الدولار الذي انطلقت منه، وغير ذلك من التفاصيل. فحاكم البنك المركزي لا يزال يحاول بشتى الطرق إقناع كبرى المصارف للمشاركة في المنصة والالتزام بتعاميمه، فيما الأخيرة رافضة بشكل تام التعامل بالمنصة، أو حتى الإعتراف بوجودها. وهذا ما أدخل مصرف لبنان بمواجهه قاسية مع كبرى المصارف، بينها بنك بيروت، فرنسبنك، بلوم بنك، بنك عودة، بنك بيبلوس.. مواجهة هي أقرب إلى الصراع حول "من سيتحمّل عبء دعم العملة الوطنية".إنطلاق المنصةأُطلقت المنصة فعلياً منذ أيام قليلة، واستمرت التساؤلات حول صحة إطلاقها أو تأجيل الموعد لعدم إحداثها أي تأثير بالسوق، ولا أي تغيير. حتى أن عدداً كبيراً من الصرافين والمصرفيين لا يتردّدون بالتعبير عن حال الضياع التي يعانونها، في التعامل مع موضوع المنصة الإلكترونية. لكن في واقع الأمر، يقول إن منصة صيرفة التي كان التعويل عليها بضبط سعر صرف الدولار أطلِقت "خلسة" كما ذكرت "المدن" سابقاً. وحسب عدد من المتابعين والمصرفيين، بينهم الخبير المصرفي خالد شاهين، فإن إطلاق المنصة بسعر صرف السوق السوداء أضعف قدرتها على إحداث أي تغيير في المدى المنظور.ويؤكد شاهين في حديث إلى "المدن" أن المنصة بدأت بالعمل فعلياً وانطلقت من سعر السوق الموازي، إلا أن السعر الذي انطلقت منه أبعدها كثيراً عن السعر المُستهدف لصرف الدولار، وعن الهدف من إنشائها عموماً. وبرأي شاهين، من غير المستبعد تحقيق المنصة الغاية المرجوة من إطلاقها، أي ضبط سوق صرف الدولار وخفض قيمته "غير أن ذلك سيحصل بشكل بطيء وطويل الأمد، في حال استمر العمل وفق المنصة. فالعملية تستلزم وقتاً لإحداث أثر واضح على سوق الصرف".حالياً يتم التداول عبر المنصة الإلكترونية الجديدة لكن بعمليات ضعيفة جداً وخجولة، وتقتصر على الصرافين وعدد قليل من المصارف، خصوصاً تلك التي تواجه مخاطر تهدد استمرارها أو نهوضها سريعاً، وتسعى دوماً إلى الالتزام بتعاميم وقرارات مصرف لبنان، يقول شاهين. أما باقي المصارف، فيمكنها أن تعمل عبر المنصة وتتداول بالدولار بيعاً وشراء، لكنها تدعي حتى اللحظة عدم جهوزيتها تقنياً، وبالتالي، تمتنع عن التعامل بالمنصة. وبعضها يدّعي عدم تأمين السيولة الكافية للمشاركة في عمليات التداول بالدولار.
مسألة إطلاق المنصة وإحباطها لآمال الكثيرين، تَثبت من مواقف أكثر من صراف من الفئة "أ" الذين يؤكدون إطلاق المنصة، لكن المسألة لا تزال حتى اللحظة مُلتبسة بالنسبة إليهم، وبعضهم لم يلمس أي تقدّم أو تغيّر على هذا الصعيد. فتداوله لا يزال وفق أسعار السوق السوداء للدولار.رفض المصارفالمصارف الكبرى ترفض التعامل عبر المنصة الإلكترونية الجديدة. وأكثر من ذلك، تحاربها من خلال إنكار وجودها وجدواها. ويسأل مصدر مصرفي من أحد المصارف الخمسة الكبرى، في حديث إلى "المدن": هل في حال لجأنا اليوم إلى المنصة لشراء أو بيع الدولار يمكننا ذلك؟ ووفق أي سعر؟ واصفاً موضوع المنصة بالأمر الغامض جداً وغير الواضح وغير المنظم. ويجزم موقفه من المنصة كمصرفي بالقول: أنا لم أشهد إطلاق المنصة ولا أتأمل بها ولا يهمني المشاركة بها. أما من الناحية العلمية، فيستبعد المصرفي كثيراً بل يرى استحالة إنجاح مخطط المنصة وتحقيق أهدافها في ضبط سوق صرف الدولار، ما لم تتوفر قدرة لدى مصرف لبنان على ضخ الدولارات في السوق، والتدخل عند الحاجة. فهذا الأمر راهناً يُعد مستحيلاً.
موقف المصرفي يسري على الكثير من زملائه في كبرى المصارف التي تعيش حالة إنكار لواقع المنصة. ومنها من يعتبر المنصة غير واقعية، ويقول صراحة أنه ليس على استعداد للتعامل بمشروع غير ذي جدوى، ومخاطره عالية على المصارف. فهذه الأخيرة تعزز سيولتها لضمان صمودها واستمراريتها، وترفض الإقدام على خطوة ناقصة كمشروع المنصة.
بالنتيجة، أطلقت المنصة وبدأ التداول عبرها بشكل خجول. ومن المفترض أن تحقق أهدافها على المدى البعيد في حال استمرت. فهل تستمر؟ الجواب هو لا، وفق شاهين. فالواقع يؤكد تعمّد البعض إفشال المنصة وإضعاف السوق أكثر فأكثر. ومن بين المعرقلين بعض المصارف التي تساهم بقوة في إفشال المنصة.حرق ورقة "المنصة"موقف المصرفيين وكبرى المصارف المُحارب للمنصة ومقاطعتها، من شأنه إفشال المشروع برمته. ما يأخذنا إلى الحديث عن توجه مصرف لبنان لرمي مسؤولية دعم العملة الوطنية عن كاهله. فمن وجهة نظر المصارف، يعمد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى إلقاء مسؤولية دعم الليرة بشكل غير مباشر على كاهلها. من هنا لم تمد المصارف الكبرى يدها إلى مصرف لبنان ولن تمدّها لإنجاح عمل المنصة الإلكترونية. كما لن تشارك بعملياتها ولم تعترف بها حتى اللحظة. وذلك لاعتراضها على المشروع برمّته، وتالياً، لرفض مصرف لبنان الإنصياع لشروطها حيال المشاركة بالمنصة.
وتعتبر المصارف أن مصرف لبنان فرض عليها الإلتزام بالتعميم رقم 154 القاضي بتكوين ما يعادل 3 في المئة من ودائعها بالعملات الأجنبية لدى المصارف المراسلة، وإعادة 15 في المئة من الودائع المحوّلة إلى الخارج، وغيرها من الشروط، بهدف مساهمتها في استقرار العملة الوطنية، من خلال التداول عبر المنصة الإكترونية، وليس في إطار إعادة هيكلة ورسملة المصارف واستعادة وقوفها على قدميها. هذا ما يقوله كبار المصرفيين سراً وعلانية بوجه مصرف لبنان. لذلك، لا يعنيهم إنجاح خطة المنصة الإلكترونية التي تستهدف إزاحة عبء دعم العملة عن كاهل المصرف المركزي.صراع بين المصارف والمركزيوعلى الرغم من تأكيد مصرف لبنان في تعميمه الأخير المرتبط بإنشاء المنصة نيته التدخل في السوق متى دعت الحاجة، غير أن الفكرة نافرة جداً بالنظر إلى شح احتياطاته الدولارية وعجزه عن الاستمرار بالدعم. من هنا، لا بد من السؤال: كيف سيتدخل مصرف لبنان بالسوق؟ هذا السؤال تطرحه المصارف، ولا تجد جواباً سوى أن مصرف لبنان "يحاول رمي العبء عن كاهله إلى كاهل المصارف. فهو غير قادر على تأمين سيولة بالدولار تُمكنه من التدخل لضبط السوق عبر المنصة"، وفق أحد المصرفيين. ويقول إن مصرف لبنان يسعى بشكل غير مباشر إلى استرداد جزء مما حققته المصارف من أرباح على مدار سنوات، من خلال هندسات مالية وقرارات وسياسات فصّلها على قياسها على مدى سنوات. يحاول سلامة التدخل بالسوق وضبط سعر صرف الدولار من خلال أموال المصارف، حماية لنفسه أولاً وأخيراً.قد يكون مصرف لبنان محقاً في آلية حمايته للسوق، خصوصاً أن المصارف فعلياً حققت أرباحاً باهظة على حساب الاقتصاد اللبناني "فلتتكبد بعضاً منها لحماية النقد". لكن في المقابل تضع المصارف استعادة قدرتها ونشاطها على رأس أولوياتها على قاعدة "لا يُبنى اقتصاد بلد من دون قطاع مصرفي قوي". وبين هذا وذاك برز صراع جديد في البيت المصرفي، سينتقل حكماً إلى الوسط السياسي، بين مصرف لبنان الذي يقف فريق الحكومة موقفه الرامي إلى ضبط سوق الصرف، ودعم العملة والاستيراد مهما كان الثمن.. وبين المصارف التي يرعاها ويحميها ويساهم فيها سياسيون، تحوِّل الأمر من معضلة مصرفية إلى مصرفية ذات أبعاد سياسية قد لا تنتهي قريباً.إغراء المصارفرداً على موقف المصارف الرافض للمشاركة في عمليات المنصة الإلكترونية، أعلن حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في بيان له صدر في الساعات القليلة الماضية، أن البنك المركزي سيقوم بعمليات بيع للدولار الأميركي للمصارف المشاركة على منصة صيرفة "Sayrafa" بسعر 12000 ليرة للدولار الواحد، طالباً من المشاركين الراغبين بتسجيل جميع الطلبات على المنصة، اعتباراً من نهار الجمعة الواقع في 21 أيار 2021 لغاية نهار الثلاثاء 25 أيار 2021، شرط تسديد المبلغ المطلوب عند التسجيل بالليرة اللبنانية نقداً. على أن يتم تسوية هذه العمليات نهار الخميس 27 أيار 2021. وتُدفَع الدولارات الأميركية لدى المصارف المراسلة حصراً، وحسب تعميم مصرف لبنان حول المنصة.
مبادرة مصرف لبنان هذه تأتي ضمن سلة مغريات يحاول سلامة تقديمها إلى المصارف، بغية إقناعها بالمشاركة في إنجاح عمل المنصة، وإن كان توافق المصارف فيما لو تم، لن يضمن الإقبال على شراء الدولارات عبر المنصة، إلا في حال خفض سعر الصرف المعتمد للشراء عن 12000 ليرة، وتالياً سعر المبيع الذي لا يتجاوز 1 في المئة من سعر الشراء. فسعر صرف السوق السوداء لامس اليوم 13000 ليرة، ومن المتوقع استمراره في المسار الصعودي ما لم يتم عرض الدولارات بوفرة عبر المنصة، بما يُغني طالبي الدولار عن السوق السوداء.