... وزحفت أرتال السيارات مساء الأربعاء 12 أيار الجاري على أتوتستراد خلدة، لاستقبال عيد الفطر السعيد في البلدات والقرى الجنوبية.
وفي أيام سبقت حلول العيد تسابقت أرتال السيارات للتوقف صفوفاً طويلة على جنبات شوارع كثيرة في بيروت، وراحت تتحرك بطيئاً بطيئاً لتصل إلى محطات التزوّد بالوقود، فأحدثت ازدحامات سير خانقة في معظم شوارع العاصمة. وكانت الدراجات النارية تتحاشر بين السيارات وتسبقها للوصول الى خراطيم عمال المحطات.
وليس من تناقض أو مفارقة بين المشهدين، ولا بين سائر المشاهد الأخرى في الديار اللبنانية اليوم أو في أوقات وأزمنة حقب سابقة مضت.
ففي أمسية سبت سبقت العيد السعيد بأيام قليلة، كانت السيارات أرتالاً تزحف من بيروت على الأوتوستراد الشمالي في اتجاه جونية والمعاملتين وجبيل والبترون، وبلدات جبل لبنان. أمسية سبت ربيعية لاستقبال الأحد على الشواطئ أو في الجبل. وبعد منتصف ليلة ذاك السبت، كانت السيارات تزحف أرتالاً على الأوتوستراد من جونيه إلى الدورة. وكان شبان يقودون سيارات - ربما هي لآبائهم أو أمهاتهم - بسرعات جنونية متعرجة بين أرتال السيارات على الأوتوستراد إياه. لا لشيء، بل لأن للمجازفات و"للهو آونة كأنها قُبلٌ يزوّدها حبيب راحل" منذ أيام المتنبي. وبعد منتصف ليل السبت إياه، كانت شوارع بيروت خالية مقفرة تقريباً، وتشوبها عتمات تلطخها أضواء رمادية هنا وهناك.
ولا تناقض أو مفارقة بين المشاهد على الأوتوستراد الشمالي ذهاباً واياباً، ولا بين المشهد البيروتي الليلي الذي يتحول إلى نقيضه في الصباح التالي.
فاللبنانيون، أو المقيمون في هذه الديار والقيّمون عليها، هم جميعاً شعوب حيّة نشطة، لا تفتُّ عضدهم غضبات الزمان ونكباته، ولا يقبلون الذل والهوان، مهما جارت عليهم الدهور والأزمنة. فإذا "طلعتْ الصخرة بوجهك، طحنها"، خاطبهم مطربهم الأول والأكبر، قائلاً لهم، فأبوا أن يخذلوه ويخذلوا أجدادهم وآباءهم وأنفسهم.
وها هم يتخبطون في أزمات متدافعة خانقة، فتطحنهم ويطحنونها: على الشواطئ وفي الجبال. في المصارف وعلى الطرق. في السيارات والبيوت. أمام محطات الوقود ومحال الحلويات، وفي المخازن الكبرى والصغرى ودكاكين اللحوم. في القصر الجمهوري والبرلمان والسرايا الحكومية. بكراتين الإعاشة الحزبية والجمعيات الخيرية. بمسيرات أطفال دار الأيتام استقبالاً للعيد في شوارع الأحياء الشعبية. في الصيدليات والمستشفيات وشركات التأمين الصحي والضمان الاجتماعي. في شركة كهرباء لبنان ومرفأ بيروت. في الشاحنات التي تجتاز الحدود. في حملات دهم الشركات المالية...
و"لبنان عم يقطع بمرحلة صعبة"، يقول صوت رخيم في واحد من الكليبات الإعلانية الكثيرة للمصارف على الشاشات التلفزيونية. فيخال سامع الصوت الإعلاني أنه مدعوٌ إلى نزهة رائعة تنتهي بـ"بك نك" أكثر ورعة على العشب في الهواء الطلق، وشمس الربيع مشرقة زاهية لطيفة في الأعالي... فينسى السامع غضبه اليائس في زياراته المتكررة لفروع مصرف تحولت قلاعاً حصينة، تستقبله فيها غالباً موظفات كنّ أنيقات مرحبات قبل هذه "المرحلة الصعبة" - النزهة، فصرن يثرن اليوم الغضب والشفقة، بعدما صار عملهن يقتصر على تهدئة غضب الزبائن بصمت أو بقليل من الكلمات المختنقة خوفاً على وظيفتهن ومرتباتهن الشهرية. لكن الكليبات الإعلانية المصرفية تجمع في خواتيمها على القول: "ليرجع لبنان ينبض أمل وحياة"، و"لبنان أقوى من كل شي".
أقوى من الثورات والانتفاضات المطحونة. وأقوى من المبادرات والعقوبات الدولية التي تحاول ردع اللبنانيين عن الطحن. ومنهم من أبى استقبال مهنئيه بدارته في هذا العيد، حداداً على أرواح شهداء فلسطين، فكتب ووزع حكمته: "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، على أمل الاجتماع في الأقصى العيد المقبل".