لم يكتف النظام المصري بمحاصرة صناعة الدراما بكثير من الآراء الرجعية السطحية وتكبيلها بقوانين ومحاذير ومحظورات، بل عمد إلى أخذ خطوة تالية متممة لتأميم تلك الصناعة وإحكام سيطرته على مقاديرها، إنتاجاً وتأليفاً وتسويقاً وتوزيعاً. راحت أيام "السينما النظيفة" وزعيق "الإساءة إلى سمعة مصر" والتلميحات والإشارات الرئاسية في المؤتمرات واللقاءات التلفزيونية حول ضرورة تقديم صورة إيجابية للمجتمع المصري وتضحيات رجال الجيش والشرطة. وراح من بعدها زمن لجنة الدراما وديناصورات الوصاية الدولتية في محاولة تلقين الفنّ وتحويله إلى موضاعات إنشائية ودراما نموذجية تتماشى مع ما تراه الدولة مُهمّاً وضرورياً.
الآن وقت التنفيذ وتجربة الأمور فعلياً. تدخل الدولة بثقلها، بعدما مهّدت طريقها جيداً باحتكار الإنتاج الفني عبر شركة حكومية ظهرت من العدم، برأس مال على الأغلب من جيوب المصريين أنفسهم، والاستحواذ على أبرز القنوات التلفزيونية، ثم اختيار وجوهها من النجوم الجدد من عديمي الموهبة ومعلني الولاء. وفي ظلّ مناخ عام كاره للفنّ والإبداع وكل ما يحملانه من ديموقراطية مفتوحة على النقد وإعادة القراءة والتحليل والرصد، إضافة إلى شحّ الأفكار المبدعة وانحصار أقواس الدراما المصرية بين البروباغندا والميلودراما، وترصُّد الرقباء وتنوّعهم.. لم يكن مفاجئاً أن تأتي أعمال الموسم الدرامي الرمضاني على مستوى صادم من السوء والرداءة والتكرار، لم يفلح في إخفاء هزالها وبؤسها تألُّق جانب تقني هنا أو صورة جميلة هناك.الدراما المصرية تحدث خارج الشاشة، في قاعات محاكم عسكرية ومريبة تضيّع أعماراً في السجون، وبرلمان هزلي يقرّ قوانين مشبوهة بوتيرة دورية، ومستشفيات يهرب منها الأطباء كما المرضى، وقطارات صارت نعوشاً متجولة، وكوارث وطنية تتوالى وتفوت بلا حساب ولا إحساس بالذنب أو تعبير عن الأسف. فيما يحتلّ صدارة قصص المسلسلات أبطالٌ غير/وفوق واقعيين وأبناء النظام البارّين من ضباط وقتلة ومواطنين شرفاء، نجحوا في تحويل الموسم الرمضاني أورغازماً وطنياً وتجلّياً للشوفينية المصرية وأساطيرها المتوالدة ومؤامراتها التي لا تنتهي، في أعمال لا تستحق تضييع الوقت في متابعتها فضلاً طبعاً عن تكاليف إنتاجها.منبع ذلك الهراء اليومي بعيد وضارب في عمق صحراء سياسية واجتماعية، لا تبدأ بسجن المفكّرين والأدباء وكل صاحب رأي، ولا تنتهي بحجب المواقع الصحفية والحقوقية وشيطنة المعارضين والتنكيل بهم. تواضعت الأحلام كثيراً حتى كاد سقف الحريات ينطبق على المبدعين، أو مَن أفلت منهم من العقاب، فيما انبرى كاتبو ومبدعو لقمة العيش والمرضي عنهم لإمداد المستبد الجديد بما يغذّي خيالاته ويطيل أجَل أكاذيبه ويعينه على إطاحة ما تبقّى من وعي أو أمل، كي يرضى وينام مرتاحاً وسعيداً بإعلامه وتلفزيونه وجرائده التي كان يحسد جمال عبد الناصر عليها.
لا يتعلَّق الأمر بمصر فحسب. ففي مجتمعات خاضعة لسيطرة حكومات استبدادية أو ديموقراطيات شكلية يسود فيها الانتهاك المتواصل للحريات الفردية وحقوق الإنسان وتفرض أشكالاً متفاوتة من الرقابة الخانقة، كما يبقى الهاجس الأمني ركناً أساسياً في عقلية الحاكم عطفاً على احتكار ممارسة العنف والقمع لضمان الأمن والاستقرار لحماية مصالح النظام من أي تهديد محتمل.. لا يزال السيسي وأشباهه أسرى عقيدة فاشية قوامها الوصاية والعلاقات الأبوية وشبه الاقطاعية، تعيق احتمالات التطور والنمو وتعرقل ازدهار المجتمع المدني الحديث مثلما تعيق عملية التنوير الضرورية للنهوض المجتمعي، والتي تحققت في أوروبا منذ قرون فيما لا تزال تبحث تلك المجتمعات عن تحقيق ثورتها الصناعية الأولى. في هذا الإطار يمكن فهم رداءة مستوى الدراما الرمضانية، كما غيرها من منتجات إبداعية وفنية، في زمنٍ مطبوع بالتفاهة وانسداد الأفق تمضي سنواته باهتة شاهدة على اضمحلال ثقافي وسياسي واجتماعي لا يليق فعلاً بمصر.تختصر الدراما المصرية صورة عصر واحتمالات امتداده. ففي أفعال هذا المستبد الذي هلّ به هلال القرن الواحد والعشرين ما سيمكث في الأرض بياناً وعبرة للقادمين من بعده، فإما يصونوها ويُعصْرنوها وينمّوها حتى يبدو صنيع المؤسس الرائد تافهاً وضئيلاً بالقياس إلى الدواهي التي سيبدعها ورثته الأشاوس، وإما أن يتخذوها مرآة سوداء لكل ما لا يجب فعله ولا تُحمد عقباه. الحالة المصرية بائسة، سياسةً وفنّاً وإعلاماً واجتماعاً، وما يحدث حالياً في الدراما وغيرها من مجالات التعبير ليس سوى تعميق حفرة السقوط، ولا سبيل موثوقاً لمجابهة هذا البؤس المستحكم سوى بإهماله ربما أو الانحناء حتى تمرّ العاصفة.أيام مبارك كانت أوضاع حرية التعبير في مصر على الحافة أو على مقربة منها، إنما كان ثمة هوامش ومساحات محددة ومؤطرة للصراخ المقنّن والإبداع المنفلت من مقصّات الرقابة. لكن في عهد السيسي، تسير الأمور بأسرع من وتيرة تشييد الكباري ومباني العاصمة الإدارية الجديدة إلى ما بعد الحافة: الهاوية.