في يوم الثلاثاء الماضي، قامت مجموعة من الناشطين اللبنانيين بتوجيه رسالة مفتوحة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حضته فيها على تجميد الأصول المشبوهة للمسؤولين اللبنانيين في فرنسا، بهدف تفكيك "مافيا سياسية اقتصادية" أغرقت لبنان في الأزمات والبؤس. الرسالة وقّعها مئات من نخبة المواطنين اللبنانيين."المدن" حصلت على النص الكامل للرسالة، ننشرها كما هي:نداء إلى الرئيس إمانويل ماكرون
حضرة الرئيس،يقترب لبنان بسرعة من الانهيار الاقتصادي والسياسي الشامل، ويغرق اللبنانيون في الفقر واليأس يوماً بعد يوم، تحت وطأة مجموعة من الأزمات الاقتصادية والمالية، التي تفاقمت في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020، ونتيجة لجائحة كورونا. فمنذ ما يقارب العام ونصف العام، فقدت العملة الوطنية أكثر من 90% من قيمتها بالنسبة للدولار، وتسارع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم المالي، وأصبح أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر. ومما زاد الوضع سوءاً توقف المصارف اللبنانية فجأة عن دفع ما لديها من ودائع بالدولار، والاكتفاء بتسديد القليل منها بالعملة اللبنانية المتدهورة، وبعد فترات طويلة من الانتظار المهين على أبوابها.أبهظ من "خطة مارشال"هذا، ونظراً لاهتمامكم الكبير والمشكور بما يعانيه اللبنانيون، فلا شك، سيدي الرئيس، إنكم تقدّرون حق قدره ليس فقط حجم هذه المعاناة، بل أيضاً حجم التحدي الكبير الذي يواجهه اللبنانيون تجاه الضرورة الماسة للتخلص من طبقة سياسية ينخرها الفساد، ولا يضاهي إمعانها في نهب المال العام سوى امتناعها عن القيام بالحد الأدنى المطلوب من الإصلاحات التي يمليها مجرد الحس السليم، والتي لا بد منها لمكافحة الفساد والخروج من نفق الأزمة الراهنة، بدءاً باتفاق تعاون مع صندوق النقد الدولي. هذا الفساد المستشري الذي أثرى بشكل فاضح المسؤولين السياسيين وأفرغ خزائن الدولة. فساد لم تسلم منه حتى المساعدات المالية الخارجية التي حصل عليها لبنان بعد الحرب الأهلية 1975-1990، والتي بلغت ما لا يقل عن 170 مليار دولار خلال الفترة 1993-2012، بما في ذلك تلك الممنوحة في إطار المؤتمرات باريس 1 وباريس 2 وباريس 3. وتضاهي هذه المساعدات من حيث القدرة الشرائية مجموع القروض البالغة 16,5 مليار دولار التي منحتها الولايات المتحدة، في إطار مشروع مارشال، لخمس عشرة دولة أوروبية، بما فيها المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا الغربية وإيطاليا وهولندا، للنهوض من ركام الحرب العالمية الثانية. وإذا قارنا بين نتائج مشروع مارشال في أوروبا ونتائج المساعدات الممنوحة للبنان بعد الحرب الأهلية، فليس من المستغرب أن ترفض الآن فرنسا ودول أخرى إعطاء الطبقة الحاكمة في لبنان شيكات على بياض، وأن تضع لذلك شرطاً مسبقاً، ألا وهو تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. أي أن تبدأ السلطات اللبنانية "بمساعدة نفسها" حتى يتمكن الآخرون من مساعدتها.عملية الاحتيال الكبرىإلا أن تجربتكم المريرة، سيدي الرئيس، مع أولئك الذين شاركوا في استغلال هذا البلد الصغير منذ ثلاثة عقود، قد مكنتكم من الاطلاع عن كثب على شتى أنواع التحايل والكذب التي يمارسونها، للتنكر لوعودهم وعدم التخلي عن امتيازاتهم. تمامًا كما شعرتم بأم العين واستنكرتم علنًا رفضهم العنيد لأي تدقيق جنائي لحسابات الدولة، إضافة إلى استنكاركم "للهندسات المالية" أو، كما أشرتم علناً إلى ذلك، "أهرام بونزي" الشهيرة التي أقدم عليها حاكم مصرف لبنان، بغية إخفاء العجز الهائل الذي وقع فيه هذا المصرف، وتضخيم أرباح بعض المصارف التجارية التي تضم عدداً من أبرز السياسيين في مجالس إدارتها وكبار المساهمين في رأسمالها.
هذه "الهندسات المالية" قامت على اجتذاب أموال المودعين عن طريق إغرائهم بفواد مرتفعة، وبشكل خيالي إلى المصارف التجارية، قبل أن يقوم البنك المركزى بشفطها عبر فوائد عالية أيضاً، للتصرف بها كما يشاء. وقد استمرت اللعبة إلى أن انكشفت خيوطها، وأخذ حجم الودائع يتضاءل ويؤدي في النهاية إلى انهيار هذا الهرم في صيف 2019.
هذا مع الإشارة إلى أن عملية الاحتيال الكبرى التي طورها تشارلز بونزي في عام 1918، وطبقها في عام 2008 تلميذه برنارد مادوف، جعلت من الممكن خداع عدد محدود من المستثمرين الأثرياء ولكن الساذجين. وكانت نتيجة هذا الاحتيال الحكم على هذا الأخير عام 2009 بالسجن لمدة 150 (مائة وخمسين) عامًا.
الفرق الكبير مع أهرام بونزي على الطريقة اللبنانية لم يمارسها أحد سوى حاكم مصرف لبنان، وعلى مساحة ليس بعض الأثرياء، بل على مساحة بلد بأكمله، وعلى حساب عشرات ألوف المودعين.
نتيجة لذلك فان أقل ما يمكن قوله هو أن المسؤولين اللبنانيين ليسوا في عجلة من أمرهم لاتخاذ ولو خطوة واحدة نحو الشفافية والإصلاحات الضرورية لإنهاء الوضع المأسوي الحالي، بدءاً بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. أما الذين على عجلة قصوى وحيوية لرؤية نهاية النفق فهم، سيدي الرئيس، أولئك الذين يتوقون على الأقل إلى إطعام وتعليم أبنائهم، وهم ملايين اللبنانيين ضحايا البطالة والتضخم المالي وتبخر ودائعهم المصرفية، التي غالبا ما تكون جنى عمرهم.فاسدو إفريقيا ورفعت الأسدهذا وبانتظار وعلى أمل تحقيق الإصلاحات اللازمة في مستقبل لا يبدو قريباً، تتجه انظار اللبنانيين إلى مليارات الدولارات من مصادر مشبوهة قام بعض اللبنانيين بتهريبها إلى فرنسا وغيرها، بما فيهم بعض المسؤولين السياسيين أو كبار الموظفين في مصرف لبنان، كما بعض المساهمن وأعضاء مجالس إدارة المصارف التجارية.
يمكن أن تكون عملية استعادة هذه الرساميل مماثلة لتلك التي اتبعت فيما يسمى بقضايا "المكاسب غير المشروعة" التي بدأت في عدة دول أوروبية ضد رؤساء دول غينيا الاستوائية والغابون والكونغو برازافيل، وكذلك ضد نائب الرئيس السوري السابق رفعت الأسد. وقد تمت ملاحقة هؤلاء بتهمة الإثراء غير مشروع على حساب مواطني الدول المعنية، وصدرت ضدهم بالسجن و/ أو مصادرة ممتلكاتهم في فرنسا وعدد من البلدان الأوروبية.
نضف إلى ذلك أن فرنسا أصبحت على وشك الانضمام إلى البلدان التي لديها، مثل الولايات المتحدة وسويسرا، تشريعات تضمن إعادة الأموال المسروقة إلى بلدانها الأصلية. هذا هو أحد أحكام مشروع قانون سياسة التنمية والتضامن الدولي الذي أقرته الجمعية الوطنية الفرنسية في 2 مارس 2021 والذي تم تحويله مؤخراً لموافقة مجلس الشيوخ.
أما في لبنان، فإن المبالغ المختلسة تبلغ عشرات المليارات من الدولارات وهي أكبر بكثير من الاختلاسات المعروفة بـ"المكاسب غير المشروعة". ومن السهل نسبياً تحديد أصحابها وحجمها في دول ديموقراطية كفرنسا. هذا ممكن لكل الأصول النقدية، من خلال ملفات الحسابات المصرفية (FICOBAS) والعقارات التي تم تسجيل استملاكها في الأجهزة الرسمية المختصة.استعادة الأموال المنهوبةإضافة إلى ذلك، فإن التحقيقات التي قامت بها بعض المنظمات غير الحكومية (NGO) قد أماطت اللثام عن عدد من عمليات الاختلاس التي سمحت لبعض كبار المسؤولين بنهب المال العام والإفلات من العقاب. هذا ما أظهره، من بين أمور أخرى، التقرير الاستقصائي الذي نشر في أغسطس الماضي، حول حاكم البنك المركزي، من قبل OCCRP (مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد) والمتعلق باستثمارات تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات في المملكة المتحدة وألمانيا وبلجيكا.
هذه التحقيقات الأولية يمكن أن تكملها شركات استخبارات اقتصادية متخصصة، بدءاً بشركة كرول العالمية التي رفض مسؤولون لبنانيون التعاقد معها بحجة أن لها علاقة باسرائيل! حتى أن المسؤولين ذاتهم قد رفضوا تزويد شركة ألفاريز ومارسال بالبيانات التي تحتاجها لبدء التدقيق الجنائي المطلوب حول ميزانيات وحسابات الدولة بغية التوصل إلى اتفاق مساعدة وتعاون مع صندوق النقد الدولي.
من جهة أخرى فثمة أمل كبير لدى اللبنانيين في أن يتمكنوا من الاعتماد على تعاون العديد من الدول لتجاوز العقبات التي تقيمها السلطات اللبنانية ضد استعادة الأموال المسروقة، كما يدل على ذلك طلب المساعدة القانونية المتبادلة الذي تم ارساله في كانون الثاني (يناير) 2021 إلى الحكومة اللبنانية من قبل النيابة العامة للاتحاد السويسري (MPC). وحسب هذا الأخير، فإن طلبه يندرج في إطار "تحقيق جنائي تجريه لجنة السياسة النقدية بشأن تبييض أموال مشدد، يتعلق باختلاس محتمل لأصول تعود لمصرف لبنان".مكافحة المافياسبب رئيسي آخر للأمل هو أن الطلب السويسري للمساعدة القانونية المتبادلة مع لبنان يندرج في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) التي وقعها كل من لبنان وسويسرا. وتتمثل الميزة الكبرى لهذه الاتفاقية في أنها تتضمن أحكامًا تفصيلية ليس فقط بشأن مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية، ولكن أيضًا بشأن التزامات الدول الأعضاء فيما يتعلق بالتعاون والإبلاغ عن غسل الأموال عبر الحدود.خدمة جديدة لا تقدر بثمن يمكنكم تقديمها للبنانيين (وللعدالة) تقوم، سيدي الرئيس، على إعطاء تعليماتكم بهدف تنفيذ الآلية القانونية الخاصة بتجميد الأصول المشكوك فيها التي يمتلكها عدد كبير من المسؤولين اللبنانيين في فرنسا. وذلك بانتظار التحقق اللازم مع الأفراد المعنيين حول مصدر وأسباب هذه الأصول، لمعرفة ما اذا كانت مشروعة أم لا، ثم إعادتها، عند الاقتضاء، إلى أصحابها. ومن البديهي ان فرنسا ستصبح عبر هذه المبادرة مثالاً ممتازًا للدول الأوروبية وغيرها من الدول غير المستعدة على الإطلاق للعب دور المتواطئ في خدمة المافيا السياسية والاقتصادية المسؤولة عن الفقر والجوع الذي يعاني منه عدد متزايد من اللبنانيين.كتب النص:- نقولا سركيس (خبير اقتصادي) nsarkis8@gmail.com- إليان سركيس (طبيب، رئيس حركة مواطنين لبنانيين في العالم mclm.icpolib@gmail.com (MCLM- كريم إميل بيطار (أستاذ جامعي) karimbitar@gmail.com