لا يختلف اثنان على ان تهريب المواد المدعومة عبر المعابر غير الشرعية بقاعا وشمالا، مزراب هدر أساسي واستنزاف لخزينة الدولة. لكن من ينظر الى المشهد عن بعد يخيّل إليه أن ضبط الحدود بالكامل مهمة بسيطة ما لم يعاين جغرافيا المنطقة، لاسيما في البقاع.
في الواقع، تمتد الحدود اللبنانية-السورية على مساحات شاسعة، والقرى بين البلدين متداخلة بحيث لا يتعدى الحد الفاصل بينها، الساقية او الطريق الترابية أحياناً أو مجرى نهر.
الحدود الهشة تسمح بتهريب المواد في غالونات وعبر الدراجات النارية او شاحنات صغيرة. وفي الاراضي السورية سكان لبنانيون، يتذرع بهم المهربون لادخال البضائع المدعومة من محروقات وطحين تحت أعين الهجانة السورية.
كل هذه الوقائع الميدانية تجعل من وقف التهريب بالكامل مهمة شبه مستحيلة، خاصة أن من يتحكمون بالمعابر غير الشرعية من الجانب اللبناني هم من ابناء العشائر النافذين في المنطقة.
أمام هذه الحقائق الجغرافية والديمغرافية، يسجّل للجيش اللبناني ماحقّقه على صعيد الحد من التهريب بقاعاً. الاجراءات المشدّدة التي اتخذها عند حاجز حربتا في بعلبك خنقت المهربين وحوّلت الحاجز إلى ممرّ إلزامي لا تجتازه صهاريج المحروقات أوشحنات الطحين إلا وفقا لشروط معيّنة.
ففي غرفة العمليات التابعة للواء التاسع، ينظّم الجيش جداول بأسماء كل المحطات الموجودة في المنطقة وأسماء أصحابها. في هذه اللوائح تم تحديد الحاجة الشهرية لكل محطة بواسطة فواتير سابقة استقصتها مديرية المخابرات، بحيث لا يسمح لأي محطة تخطّي الكمية المحدّدة لها شهرياً.
ثلاثة أيام في الأسبوع فقط هي الاثنين والأربعاء والجمعة، يسمح فيها الجيش بدخول صهاريج المحروقات. قبل يوم على وصول الشحنة، يتصل صاحب المحطة بغرفة العمليات لإعطاء كافة التفاصيل المتعلقة بحمولتها. مع الوصول اإلى الحاجز يبرز السائق فاتورة مفصّلة، تتضمن كمية الحمولة المشحونة وإسم الشركة والوجهة والختم الجمركي.
بعد ذلك يتم الكشف على الحمولة والتواصل مع غرفة العمليات. إذا ثبت أن المعلومات المدوّنة على الفاتورة مطابقة لتلك المسجّلة في غرفة العمليات، يكمل الصهريج طريقه ولا صلاحية للجيش لمنعه من الدخول ما دام قانونياً. لكن إذا تبيّن أنه غير مستوف للشروط أو أن المحطّة التي طلبته قد تخطّت الكمية الشهرية المسموح به، فيعود الصهريج أدراجه.
أما على طرقات التهريب، فيعمد الجيش يومياً على رفع السواتر الترابية والاسلاك الشائكة منعاً لاستخدامها من قبل المهربين. علما أن محاولات إزالة السواتر لا تتوقف، كونها الطريقة الوحيدة للالتفاف على حواجز الجيش لاسيما من محيط حربتا وصولا إلى القصر في الهرمل.
هذه الاجراءات حققت نتائج ملموسة فورية على أرض الواقع. إذ تشير معلومات tayyar.org إلى أن كمية المازوت والبنزين التي تدخل بعلبك-الهرمل انخفضت من ال 120 صهريجا يومياً إلى ١١٦ صهريجاً أسبوعياً، ما بين كانون الأول وكانون الثاني.
لكن وبما أن أساليب التهريب لا تنضب، صار بعض المحطات الحدودية يتذرع بعدم تسلّمه كميات كافية من المحروقات فيحجبها عن أهالي البلدات ويحتكرها ويهرّبها ليلا إلى سوريا.
بكل واقعية يدرك الجيش أن الثغرات الحدودية لا تزال موجودة، لكنه يجهد لغربلة الصهاريج قبل تغلغلها في السهول الواسعة. فتثبيت نقطة تفتيش عند حاجز حربتا وليس عند حاجز المحطة المتقدّم باتجاه الهرمل يهدف قبل كل شيء الى التدقيق في كل صهريج قبل دخوله القطاع. علما أن أي قرار لنشر عناصر على طول الحدود في الهرمل، كلفته البشرية باهظة جداً، وهو أمر مستحيل في ظل كل المهام الموكلة إلى الجيش.
لكن بمعزل عن اجراءات الجيش، لا يمكن لوقف التهريب أن ينجح من دون تقاسم المسؤوليات. فعلى وزارة الطاقة اتخاذ قرار جريء باقفال المحطات غير الشرعية في بعلبك-الهرمل وعلى الموزعين التنازل عن قسم من أرباحهم ووقف تسليم المحروقات المدعومة لهذه المحطات، كما يقع على عاتق الجمارك اللبنانية مكافحة التهريب الذي يقع في صلب مهامها، بشكل جدي.
ليبقى الأساس القرار السياسي بتحويل هذه المهمة إلى قضية وطنية.