منذ قرون عديدة، دأب الناس في مختلف أنحاء شبه القارة الهندية، على الاستعانة بنصائح أجدادهم المفعمة بالحكمة في حل مختلف المشاكل التي تصادفهم في الحياة اليومية.
كان طفلاي التوأم منذ الولادة يتوسدان أغطية الأواني الفولاذية وأكياس صغيرة مملوءة بالأرز وصحون أكواب الشاي، بهدف الحفاظ على استدارة رأسيهما.
هذه واحدة من الحيل الباكستانية “توتكاي”، التي صادفتها منذ أن أنجبت طفليّ، و”توتكاي” – المفرد توتكا – هي علاجات وحلول منزلية، يروج لها الكثيرون ويستخف بها البعض، لكنها كثيرا ما تكون ناجعة.
وقد دأب سكان شبه القارة الهندية منذ سنوات طويلة، على الاستعانة بنصائح الأجداد المفعمة بالحكمة لحل مشاكل الحياة اليومية.
وهذه النصائح بعضها عملي، مثل علاج دمامل الجفون بالثوم، ونشر الملح والكركم في المنزل لطرد النمل، وبعضها غريب، مثل وضع قشور البيض في أركان المنزل لخداع السحالي، ووضع القرنفل في الليمون للوقاية من حمى الضنك.
وتعتمد الكثير من هذه العلاجات على الثلاثي السحري: الليمون والكركم والزنجبيل. وبينما يوصف مشروب السمن لتحفيز المخاض، فإن مشروب الحلتيت يعالج انتفاخ البطن. وقد يصادف ركاب الحافلات والقطارات بعض الباعة المتجولين يبيعون “علاجات” للأمراض الشائعة. وكثيرا ما يقدم كبار السن في المناسبات الاجتماعية نصائحهم لحل مختلف مشاكل الحياة اليومية.
ففي باكستان، إذا ظهرت عليك أية أعراض لمرض، سيتسابق الجميع لإعطائك نصائح لعلاجه.
وتحظى أيضا وصفات العناية بالجلد والبشرة بالأعشاب الطبيعية بشعبية كبيرة، ربما لأن صالونات التجميل واستخدام مساحيق التجميل لا يزالان حكرا على المتزوجات في بعض العائلات الباكستانية، ما يجعل هذه العلاجات الطبيعية الخيار الوحيد للكثيرات.
وتتضمن نصائح علاج حب الشباب، طحن الخبز المسطح القديم وخلط مسحوقه مع مسحوق أوراق النيم لتقليل دهون البشرة الزائدة وتنظيف المسام. ويعلق الناس آمالهم على هذه المكونات المتوفرة في المطابخ وخزانات الطعام لعلاج مختلف المشاكل والأمراض.
وفرت هذه الوصفات والحيل الطبيعية التي تمتد لقرون، حلولا فعالة باستخدام كميات ضئيلة من عناصر متوفرة، وأسهمت في إتاحة الرعاية الصحية لأكبر عدد من السكان ونشرت أساليب العناية بالذات
وكلمة “توتكا”هي كلمة أوردية استخدمت للمرة الأولى عام 1683 في كتاب بعنوان “أناشيد المتزوجات”. وتقول سيدة نوشين علي، التي تدرّس اللغة الأوردية في كاراتشي: “توتكا تعني العلاج من الشرور والأمور السلبية، وكانت الكلمة ترتبط بالسحر الأسود والسحرة. وفي اللغة الأوردية المعاصرة بعد أن عزف الناس في جنوب آسيا عن هذه الممارسات، أصبحت الكلمة تستخدم للإشارة إلى التداوي بالأعشاب، كما لو كانت علاجا سحريا”.
وتستدعي “توتكاي” في باكستان الحنين للماضي، إذ تعد الجدات اللائي عايشن الانفصال والحرب حافظات أسرار هذا النوع من العلاجات والنصائح. وقد يعد نشر هذه العلاجات تخليدا لمثابرة هؤلاء الجدات وسعة حيلتهن.
واكتسبت علاجات “توتكاي” أهمية كبيرة أثناء الاضطرابات السياسية أو المجاعة، إذ كانت الوسيلة الوحيدة للتداوي من الأمراض، ولم تكن تكميلية أو بديلة.
ويحكي رحمن نوابجان صيديقي، الباكستاني الثمانيني، أنه كان يشاهد جدته في الهند، حيث نشأ، تعالج مرض القوباء الحلقية الفطري بالثوم ولدغات الزنابير بعصير البصل.
وعلى الرغم من أن جدته لم تمارس الطب قط، وكان منزلها يبعد دقيقة واحدة عن مستشفى كلية الطب المسيحية، إلا أن المزارعين في البلدة كانوا يفضلون علاجات الأعشاب التي تصفها لهم على زيارة المستشفى.
وكان صيديقي وجدته يحتفظان بقارورة واسعة مملوءة بعقارب سامة مغمورة في زيت السمسم لاستخدامها كترياق للدغات العقارب. وكانا يزرعان في حديقة المنزل مختلف الأعشاب مثل الصبار المحلي، الذي يستخدم كواقي شمس طبيعي. وكانا يجمعان الجذور ولب الثمار وأوراق الأزهار ويستخدمانها في تحضير وصفات علاجية لمختلف الأمراض.
ويلجأ الكثير من المرضى للتداوي بالأعشاب لأنها البديل الأرخص ثمنا للعقاقير الكيميائية التي تباع في الصيدليات. فهذه العلاجات العشبية من الأرض ويتناقلها أناس يعيشون على الأرض. ويقول صيديقي: “ما زلت أثق في العلاج بالأعشاب منذ طفولتي”.
وذاع صيت زبيدة طارق، الطاهية الشهيرة في باكستان، لدورها في الترويج لعلاجات وحيل “توتكاي”، منذ أواخر التسعينيات. وعلى مدار مشوارها المهني الثري، الذي بدأته في سن الخمسين وقدمت خلاله 6,500 برنامج طهي، كانت تعرض نصائح للمشاهدين عبر القنوات المحلية وترد على استفساراتهم.
وفي آخر حوار لها وصفت زبيدة “توتكاي” بالقول: “هي صميم نظام العائلة الممتدة. لقد تربينا على استخدام العسل الدافئ وبذور النانخة والزنجبيل لعلاج الكحة وعصير الليمون على الصدغين لعلاج الصداع، حتى إن الناس لا يعرفون أسماء الأدوية”.
لكن حتى لو عرف الناس أسماء الأدوية، فإنهم يفضلون دائما العودة لأساليب التداوي التي يألفونها منذ قرون. ويتذكر ساجد محمود، القبطان البحري، أن جدته عالجت جرح غائر في إصبعه كان ينزف بشدة بوضع الكركم، ولم يحتج بعدها لرؤية طبيب أو زيارة مستشفى.
وتساعد دكتورة بلقيس شيخ، وهي ممارسة معتمدة للطب التجانسي والطب البديل وطبيبة التداوي بالأعشاب، في سد الهوة بين عالم الطب وعالم التداوي بالأعشاب. وتنحدر بلقيس من قرية صغيرة في أقصى شمال باكستان، وقد أشعل افتقار القرية للأطباء والمراكز الطبية بداخلها الشغف بالتداوي بالطبيعة.
وتقول بلقيس: “إذا أصبت بكسر وكان أقرب طبيب على بعد 12 ساعة، فإن الحل الأمثل هو البحث عن علاج من المطبخ أو استخدام أغصان شجر الصفصاف. فجميع النساء في باكستان تزخر مطابخهن بالوصفات الطبية الطبيعية”.
ودشنت بلقيس قناة على موقع يوتيوب، تجاوز عدد المشتركين فيها مليون مشترك، وتتناول موضوعات عديدة من اختلال الهرمونات إلى وصفات طبيعية لفرد الشعر باستخدام القهوة والزبادي ومسحوق البوراكس، ووصفة تبييض الأسنان في ثلاث دقائق، التي تتضمن مسحوق القرنفل (لكونه مادة مطهرة) ومسحوق الثوم (الذي يحتوى على كبريت يعمل على إزالة الجير) ومسحوق الزنجبيل (لمنع نزيف اللثة) والملح (لتنظيف المواد المتراكمة على الأسنان والقضاء على الرائحة الكريهة).
ورغم أن هذه المكونات معروفة في وصفات الجدات، فإن بلقيس قد أضفت عليها طابعا علميا، بمراجعة الأبحاث العملية والدوريات والكتب في هذا المجال، لدعم كل وصفة بالأدلة والبحث.
يرى الكثيرون أن التداوي بالأعشاب الطبيعية هو البديل الأقل تكلفة للجوء للأطباء والمستشفيات
وتقول بلقيس إن طريقتها في عرض الأدلة العلمية للعلاجات التقليدية يلقي صدى لدى أبناء جيل الألفية، الذين يلجؤون لمحرك البحث “غوغل” بحثا عن حلول لمشاكلهم في الحياة.
وبحسب فريق العمل في القناة، فإن الكثير من متابعيها في العشرينيات من العمر، وهذا يكشف عن إقبال الشباب الباكستاني المتزايد على العلاجات المحلية. وتقول بلقيس: “نحن كالنباتات، إذا انقطع اتصالنا بجذورنا، سنذبل”.
وأسهمت مواقع التواصل الاجتماعي، “واتساب” و”يوتيوب” في نشر نصائح وحيل “توتكاي”. وحصدت مقاطع الفيديو على قناة “باك توتكاي”، التي تعرض نصائح يومية في أقل من عشر دقائق، في شتى الموضوعات بدءا من طرق وضع مساحيق التجميل إلى طرق عمل المعكرونة بالدجاج، ووصفات لمحاربة التجاعيد، أكثر من ستة ملايين مشاهدة.
ولا تخلو الأحاديث اليومية أو المحادثات العائلية على موقع واتساب أو البرامج التليفزيونية من نصائح “توتكاي”.
ولتلبية هذا الطلب الكبير على الوصفات العلاجية الطبيعية، تُنتج هذه الوصفات على نطاق واسع، وتعبأ في قوارير في المعامل والصيدليات.
وتحدثت إلى فاطمة منير أحمد، المديرة المنتدبة والرئيسة التنفيذية لشركة “هامدارد” بباكستان لتصنيع الأدوية العشبية وتقطيرها.
وأسس جد فاطمة الأكبر أول عيادة في دلهي للطب اليوناني في عام 1906، وبعد انفصال باكستان عن الهند، أسس أبوها شركة “هامدارد” في باكستان. وتقول فاطمة: “كل التركيبات التي نصنعها مأخوذة عن أبي أو جدي”.
وكشأن الأيورفيدا أو “علم الحياة”، الذي يعود إلى 5000 عام، فقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن الطب اليوناني قائم على المبادئ التي أرساها علماء يونانيون وفرس، مثل أبقراط وابن سينا. ويجمع الطب الشرقي بين الطب اليوناني والطب الصيني ومبادئ أيورفيدا، ويُمارس في دول جنوب آسيا.
لاقت وصفات العناية بالبشرة الطبيعية، مثل قناع أوراق النيم وعصير الليمون وماء الورد لعلاج البشرة الدهنية، رواجا كبيرا
وتقوم علاجات الطب الشرقي على علاج البدن بأكمله للحفاظ على الاتزان الداخلي. وكانت فاطمة في سنوات الطفولة تواظب على خطوات تنظيف المعدة في عطلات نهاية الأسبوع. فإن تناول زيت الخروع أيام السبت لتأثيره المليّن ثم تناول الزبادي الغني بالبكتيريا النافعة أيام الأحد، يسهم في الحفاظ على صحة المعدة والأمعاء.
وتقول فاطمة: “إن أعضاء الجسم بأكملها مترابطة. فلا تتوقع أن تؤدي المعدة وظائفها يوما، ثم يؤدي الدماغ وظائفه في اليوم التالي”.
وبدلا من علاج أعراض المرض كالطب المعاصر، فإن الطب الشرقي يعالج أسبابه. فعند علاج حب الشباب، لا يصف ممارسو الطب اليوناني والطب الشرقي مراهم ومستحضرات كيميائية، بل يفضلون إزالة الشوائب من الدم باستخدام أوراق النيم والفشاغ الصيني، المعروف بمزاياه في علاج الصدفية.
وعلى عكس الآباء والأجداد الذين كانوا يحضرون هذه الوصفات يوميا، فإن الجيل الحالي يرغب في الحصول على هذه العلاجات الفعالة بسرعة وبلا مشقة . ولهذا أنتجت شركة “هامدارد” مشروب “صافي” المصنوع من أوراق النيم والفشاغ الصيني. ولاقى المشروب رواجا كبيرا في باكستان بين الراغبين في الحصول على بشرة صافية وخالية من البقع والبثور.
وأسس جد فاطمة “مدينة الحكمة”، لتكون مدينة التربية والعلوم والثقافة على مشارف كراتشي، وهي الأولى من نوعها في شبه القارة الهندية التي تمنح شهادة دكتوراة وبرامج دراسية لمدة خمس سنوات في الطب الشرقي. وتهدف المدينة إلى إعداد ممارسي الطب اليوناني من أجل مواصلة الأبحاث في العلاجات الطبيعية البديلة.
وأجرت المدينة أبحاثا متطورة باستخدام تقنيات التلقيح الخلطي والهندسة الوراثية، وتوصلت إلى نتائح جديدة، منها مثلا أن غمر الليمون بدون عصره في الماء يحافظ على العناصر الغذائية لليمون التي قد يفقدها في حالة عصره.
وتنصح غزالة رضواني، العميدة بمدينة الحكمة، بمزايا التداوي بالأعشاب الطبيعية، وتشرح بالتفصيل خصائص جميع العناصر المستخدمة في الوصفات العلاجية الطبيعية. فإن فعالية القرنفل في علاج آلام الأسنان، ترجع إلى أنه غني بمركب الأوجينول، الذي يجعله مخدر طبيعي.
واكتشفت رضواني أن مشروب الكمون وبذور النانخة يعالج الانتفاخ، لأن بذور النانخة تساعد على الهضم، ويحتوي الكمون على مادة ثيموكينون المضادة للالتهاب.
وقد وجدت الكثير من الوصفات الطبيعية “توتكاي” طريقها مؤخرا إلى الغرب، ربما لمزاياها العلاجية أو لمجاراة صيحات جديدة. لكن نصائح ووصفات “التوتكاي” التي تعود لقرون مضت، تكتسب أهمية كبيرة في شبه القارة الهندية، لأنها وفرت حلولا فعالة باستخدام كميات ضئيلة من عناصر متوفرة، وكان لها الفضل في إتاحة الرعاية الصحية لأكبر عدد من السكان، ونشر أساليب العناية بالذات.
ولا تزال هذه الوصفات تسعف المصابين والمرضى بأسعار في متناول الجميع.
ومن المرجح أن وصفات “توتكاي” ستبقى لسنوات طويلة وستلعب دورا محوريا في تشكيل هويتنا، فحين نعرض هذه الوصفات، نقوم باستدعاء تراث أجدادنا. ويشهد على ذلك رأسي كامل الاستدارة.