بعد فشل المسعى الاول بتأليف حكومة إنقاذية كخطوة أولى من الخطوات المتفق عليها مع الجانب الفرنسي، وبعد توجه الرئيس الفرنسي بكلام قاسٍ لجميع الأطراف اللبنانية التي تعهّدت تنفيذ بنود الاتفاق على المبادرة الفرنسية، أتى ردّ أول من رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على جزء من كلام ماكرون المتعلّق بتعميم قبض الأموال على كل الأطراف السياسية مع تحدّي قام به باسيل رافضاً هكذا إتهام تعميمي، كذلك صدر بيان عن حركة أمل للتنصّل من المسؤولية عن إفشال المبادرة، لا جواب من تيار المستقبل حتى اللحظة على ما اتهمه به ماكرون، أما موقف حزب الله فانتظره اللبنانيون كما الجهات الخارجية المعنية فأتى على لسان سماحة السيد حسن نصرالله في خطاب كامل يفنّد به ما حصل بكل المراحل وصولاً لاعتذار أديب.
هادئاً كان أمين عام حزب الله في رده على الهجوم المباشر الذي قام به ماكرون ممتعضاً من عدم تجاوب الحزب مع المبادرة وعدم الالتزام بما تعهّد به حسب قوله، فأتى رد نصرالله أننا لسنا نحن من ننكث الوعود ولم تكن الوعود مبنية على الشروط التي ذهب باتجاهها التأليف. سرد نصرالله ما حدث، من وجهة نظره، ووضع اللوم كله على نادي رؤساء الحكومات السابقين، كونهم تصرفوا في التأليف بشكل استئثاري مرفوض. بقي الخطاب لمدة غير قصيرة للتركيز على نقطتين فقط، لم تكن هذه الشروط التي وعدنا بالالتزام بها، والمشكلة عند الرباعي السنّي لا عندنا نحن الثنائي.
ما قاله نصرالله عن الاستئثار بالتشكيل لم يكن جديداً على مسمع اللبنانيين، اذ سبق وتذمّر منه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في أحد خطاباته، كذلك كان قد تكلّم عنه رئيس الجمهورية بشكل واضح في الحادي والعشرين من شهر أيلول قائلاً أن "الرئيس المكلف لا يريد الأخذ برأي رؤساء الكتل في توزيع الحقائب وتسمية الوزراء ويطرح المداورة الشاملة، ويلتقي معه في هذا الموقف رؤساء حكومة سابقون. ويسجل له أنه يرفض التأليف إن لم يكن ثمة توافق وطني على التشكيلة الحكومية".
هذا التفرّد بالتأليف كان مرفوضاً من التيار الوطني الحر ومن رئيس الجمهورية بشكل علني، كما هو مرفوض من الثنائي الشيعي وآخرين. لكن هل يمكن حصر المشكلة في هذه النقطة فقط؟
في الخطاب نفسه للرئيس عون كان قد أضاف على استثئار فريق رئيس الحكومة بالتأليف، امتعاضاً آخر من أن "كتلتا التنمية والتحرير والوفاء للمقاومة تصران على التمسك بوزارة المالية وعلى تسمية الوزير وسائر وزراء الطائفة الشيعية الكريمة" وأكّد الرئيس عون أنه بعد استمزاج آراء ممثلين عن الكتل النيابية كانت هناك مطالبة بالمداورة من معظم الكتل كما هناك رفض لتأليف الحكومة من دون الأخذ برأيهم.
وكان واضحاً رئيس البلاد بقوله "لا يجوز استبعاد الكتل النيابية عن عملية تأليف الحكومة لأن هذه الكتل هي من سيمنح الثقة أو يحجبها في المجلس النيابي، وإن كان التأليف محصوراً بالتوقيع بين رئيس الحكومة المكلف ورئيس الجمهورية. كما لا يجوز فرض وزراء وحقائب من فريق على الآخرين خصوصاً وأنه لا يملك الأكثرية النيابية". تكلّم السيد نصرالله بخطابه عن الأكثرية النيابية عدة مرات وكأنه يملكها منفرداً أو كثنائي، بينما في الواقع هما لا يملكان الأكثرية النيابية الرافضة للمداورة لأن التيار الوطني الحر ليس معهما في طرح الحصرية المذهبية لوزارة المالية، لا بل ذهب رئيس التيار نحو التحذير من استعمال هكذا بدعة غير دستورية ورفض توصيفها بالعُرف لأن الأعراف تتطلّب الاجماع والتكرار الدائم (ما لا ينطبق عليها)، وأكثر تم التحذير من استعمالها كوسيلة للمثالثة المرفوضة من باقي اللبنانيين. لم يكن صائباً كلام السيد نصرالله عن الأكثرية النيابية إذا لا أكثرية تشاطره المطالبة بالمالية وحصريتها المذهبية. كذلك لم يجب الأمين العام عن تساؤلات اللبنانيين حول جدوى هذا الاصرار على حصر وزارة المالية بالمذهب الشيعي وبالفريق السياسي الذي يمثّله، واستثناءها عن باقي الحقائب الوزارية التي لا مشكلة في المداورة عليها. لم يجب عن سبب الاستئثار بهذه الحقيبة كما يستأثر فريق رئيس الحكومة بالتأليف، بل قال أن هذا الموضوع يتطلّب شرحاً طويلاً ووقتاً طويلا، رغم أن هذا الموضوع هو من أهم ما كان ينتظر اللبنانيون جواباً عليه. وأكثر، حوّل نصرالله القضية الأساس باتجاه صلاحيات رئيس الجمهورية مبدياً الحرص الكبير على الرئيس وصلاحياته بالمشاركة في التأليف. غريب كيف أن الحرص على الرئاسة والصلاحيات لا يكون بالتجاوب مع مبادرة أطلقها الرئيس عون نفسه طارحاً إلغاء التوزيع الطائفي للوزارات السيادية وعدم تخصيصها لمذاهب معينة. لم يطرح أديب أي تشكيلة حكومية على الرئيس عون حتى يمارس الرئيس صلاحياته برفضها أو قبولها أو تعديلها أو نسفها بمطالب له الحق بها، فالحديث عن صلاحيات الرئيس أمر غير منسجم مع العقد الأخرى عند الأطراف السياسية التي تضع شروطاً ليس الرئيس موافقاً عليها أصلاً. لما لم يظهر الدعم للرئيس بدعم مبادرته؟ وإذا كانت المشكلة هي فعلاً عند فريق رئيس الحكومة وحده كان يمكن للحزب أن يقذف الكرة باتجاهه من خلال تسهيل التأليف والتخلّي عن الاصرار على وزارة المالية، والتجاوب مع مبادرة رئيس الجمهورية؛ لا بل أكثر، كان بإمكانه وضع ثقته بالرئيس وإعطائه غطاء أكبر من خلال حل يكون بتسمية الرئيس عون لوزير المالية. لكن هذا كله لم يحصل، لا تجاوب من الطرفين مع مبادرة الرئيس، ولا تنازل عن الاستئثار المذهبي بالحقيبة الوزارية ولا تنازل عن تسمية الوزير وكل الوزراء الشيعة، بنفس حجم إصرار الفريق الآخر على الاستئثار بالتأليف دون العودة للكتل النيابية. وأكثر، شنّ قسم كبير من جمهور الحزب وإعلامييه على مواقع التواصل الاجتماعي هجوماً وطالبوا بالمداورة على رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، وكلّنا يعلم أن حزب الله ينظّم جيداً قطاع التواصل الاجتماعي ويجرب إتصالات لمنع جمهوره من التهجم على بعض الحلفاء عند الحاجة، ولم يفعل. لم يسمع اللبنانيون أي جواب على عقدة وزارة المالية، ولا جواب على رفض المبادرة الرئاسية، ولا جواب على كلام ماكرون حول اتهام حركة أمل للحزب بأنه هو وراء التشدد بالمطالب لا هي، وأنه هو الرافض للتنازل لا هي، وأنه هو من يصرّ على المالية لا هي. كل هذا لم يجب عنه السيد في كلامه، بل أخبرنا ما كنا كلنا نعرفه مسبقاً عن استئثار فريق رئيس الحكومة بالتشكيل. علماً أن الثنائي الشيعي كان يطالب بتكليف سعد الحريري لرئاسة الحكومة، وقدّم له "لبن العصفور" ليعود ولم يعد. والثنائي نفسه ارتضى بتسمية من يسميه الحريري رئيساً للحكومة، علماً أن فريق الحريري لا يملك أي أكثرية نيابية تخوّله الحصول على المنصب. من قدّم كل هذه التنازلات لفريق الحريري لا يجب أن يلومه على طموحه بالاستئثار، فهو قد أعطاه حجماً أكبر من حجمه وقوةً لم يكن يملكها. الجيّد أن خطاب أمين عام حزب الله لم يكن تصعيدياً ضد المبادرة الفرنسية، بل هادئاً ومتّزناً ومنمّقاً ومصرّاً على التجاوب مع المبادرة لا نسفها. على أمل أن نرى تسهيلاً من جميع الأطراف في المرحلة المقبلة القريبة لأن الأزمة المالية والإقتصادية شارفت على الوصول إلى "جهنم".