“تحدّدت الإستشارات ولا توافق… والحريري – باسيل: كسر عظم”.
على وَقع التفلت الأمني في الشارع، وفي ظل التخبّط الحاصل على صعيد تأليف الحكومة وغياب أهل السلطة عن المسؤولية التي تفترض القيام بحلول سريعة وحاسمة بشأن الإنقاذ، حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من «حرب أهلية» في لبنان «إذا تخلينا عنه»، وذلك قبيل عودته إلى بيروت في مسعى لإنهاء الأزمة السياسية التي تمنع تشكيل حكومة تُخرج البلاد من أزمتها العميقة.
وقال ماكرون من باريس «إذا تخلينا عن لبنان في المنطقة وإذا تركناه بطريقة ما في أيدي قوى إقليمية فاسدة، فستندلع حرب أهلية» وسيؤدي ذلك إلى «تقويض الهوية اللبنانية».وأشار إلى «القيود التي يفرضها النظام الطائفي» التي أدت «إلى وضع يكاد لا يوجد فيه أي تجديد سياسي وحيث يكاد يكون هناك استحالة لإجراء إصلاحات». وحذّر من أنه «إذا لم نفعل ذلك فإن الاقتصاد اللبناني سينهار» و»الضحية الوحيدة ستكون اللبنانيين».
امّا في السياسة، فلقد ثبت بما لا يقبل أدنى شك أنّ لـ»كورونا» شريكاً في الاجهاز على لبنان، هو الطبقة السياسية المتحكّمة، التي تنافس بعضها البعض على تقديم أسوأ نموذج في الأداء السياسي، لا مثيل له حتى في أكثر الدول تخلّفاً، جعل الخوف على لبنان مشروعاً، ليس من العدو الخارجي، بقدر ما انّ الخوف عليه هو من العدو الداخلي المتمثّل بطاقم سياسي لا انتماء حقيقياً له الى لبنان، بل الى غرائزه ومصالحه، ولا يعنيه سوى الجلوس على الكرسي والتحكم والاستئثار، وثوابته المقدسة التي تبدأ وتنتهي عن جَني المغانم والسطو على المقدرات!
الشعب اللبناني مقهور، والطاقم السياسي لا يرف له جفن، والمجتمع الدولي معذور، إن خجل بهذه النوعية من السياسيين، الذين لا يرون أبعد من أنوفهم، وما حَلّ ببلدهم بفعل أيديهم، ويعدمون كل فرصة إنعاش له، وخصوصاً في وضعه الحالي الذي يُحتضَر.
الكارثة اللبنانية، التي تعاظمت مع انفجار مرفأ بيروت، جمعت المجتمع الدولي كله حول لبنان، وجرّب بكل لغاته أن يُفهم القابضين على الدولة بأن تجاوز هذه الكارثة مشروط بانقلاب جذري على السياسات التي حكمت البلد وخرّبته، ولكن لا حياة لمن تنادي. وها هي فرنسا تصرخ في آذانهم «ساعدوا بلدكم .. فلبنان الدولة يوشك ان ينتهي، وها هو الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يرفع صوته مع لبنان من جديد، حيث عشية زيارته الثانية الى بيروت، من حرب اهلية، وقال في باريس امس: «إذا تخلينا عن لبنان في المنطقة وإذا تركناه بطريقة ما في أيدي قوى إقليمية فاسدة، فستندلع حرب أهلية» وسيؤدي ذلك إلى «تقويض الهوية اللبنانية».
وراهَن ماكرون على استجابة السياسيين لخريطة طريق الانقاذ التي رسمها أمامهم، لكنّ رهانه هذا كان خاسراً، فصرخته التي أطلقها في بيروت اصطدمت بذهنيات متحجّرة، مارَست بحق بعضها البعض أسوأ لعبة ابتزاز فوق ركام البلد، وتسابق بعضها لتحريض دول كبرى على تعطيل فرص الحل في لبنان في سابقة لا مثيل لها، حتى في الدول التي تضمر الشرّ للبنان.
وعلى ما يؤكد مواكبون للمسعى الفرنسي لـ»الجمهورية»، فإنّ أخبار هذه اللعبة، التي كانت ترد الى الايليزيه، كانت صادمة للرئيس الفرنسي وادارته، ومع ذلك ظلّ يحاول ان يهدم الحيطان التي يبنيها السياسيون بين بعضهم البعض، وبعض المراجع السياسية كانت حتى ايام قليلة خَلت، في أجواء صدمة ماكرون، وتفاصيل محاولاته إحداث ثغرات في تلك الحيطان.
وبحسب تأكيدات هؤلاء المواكبين، فإنّ ماكرون الذي سيصل الى بيروت بعد يومين ليسمع مباشرة من اللبنانيين ماذا قرروا، سيكون له كلام مباشر وصريح يتجاوز اللغة الديبلوماسية. ويلفت هؤلاء الى مسألة يصفونها بالشديدة الاهمية، ويجب ان يدركها اللبنانيون، وهي انّ ماكرون لن يسلّم بفشل، او بالأحرى، بتَفشيل مسعاه.
وفي هذا السياق، قال مسؤول في الرئاسة الفرنسية أمس إنّ الرئيس الفرنسي سيتوجّه إلى بيروت الأسبوع المقبل للضغط على الساسة اللبنانيين للمضي قدماً في تشكيل حكومة يمكنها أن تطبّق إصلاحات عاجلة.
وأبلغ المسؤول نفسه الصحافيين قبل زيارة ماكرون لبيروت يومي الاثنين والثلاثاء، قوله: إنّ الرئيس قال إنّه لن يستسلم، وقطع على نفسه عهداً بفِعل كل ما هو ضروري وممارسة الضغوط اللازمة لتطبيق هذا البرنامج.
وأضاف: إنّ الوقت حان لِتنحّي الأحزاب السياسية اللبنانية جانباً، مؤقتاً، وضمان تشكيل حكومة تعمل على التغيير.
إلّا انّ معلومات مراجع سياسية في بيروت تؤكد انّ ماكرون لن يُبقي بابه مفتوحاً الى ما لا نهاية، فمع وصول مسعاه الى نقطة الفشل ونقطة اللارجوع، لن يكون مفاجئاً إذا أعلنَ صراحة أنّه ينفض يده من الملف اللبناني، ويبلغ السياسيين بما مفاده انّ باريس، ومِن موقع حرصها على لبنان، قامت بما يُمليه عليها واجبها تجاه بلد تجمعها معه روابط تاريخية، وهي أمام عدم تجاوبكم، مضطرّة لأن توقِف مسعاها، ومعنى ذلك أنكم أصبحتم وحدكم، فاخرجوا من أزمتكم إن استعطم، ولا تتوقعوا مساعدات من أحد. ولن يكون مفاجئاً ايضاً إن كان لفرنسا في وقت لاحق، عدم ممانعة، او حتى شراكة، في فرض عقوبات على بعض الاطراف في لبنان.
من جهة ثانية، أفيد أمس عن انّ مساعد وزير الخارجية الاميركية دايفيد شينكر سيزور بيروت يوم الاربعاء في 2 ايلول المقبل.
وبحسب بيان لوزارة الخارجية الاميركية، فإنّ شينكر سيسافر الى لبنان بتاريخ 2 ايلول، حيث سيلتقي مع ممثلي المجتمع المدني، وسيناقش الجهود المتعلقة بالمساعدات الاميركية في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، وسيحثّ القادة اللبنانيين على تنفيذ اصلاحات تستجيب لرغبة الشعب اللبناني في الشفافية والمساءلة وحكومة خالية من الفساد».
وفي موقف لافت للانتباه، قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية لـ»العربية»: إنّ سبب انفجار مرفأ بيروت هو الفساد وسوء الإدارة في لبنان، وفشل القادة اللبنانيين في إجراء إصلاحات هادفة.
وأكد المسؤول الأميركي «أنّ بلاده ستواصل دعمها للمتضررين من انفجار مرفأ بيروت».
الى ذلك، حسمت رئاسة الجمهورية أمرها وحددت الاثنين المقبل موعداً لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة. وبحسب ما أعلن، فإنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تَشاوَر في تحديد الموعد مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
الّا أنّ اللافت للانتباه في تحديد موعد الاستشارات الاثنين، الذي يصادف في اليوم نفسه الذي قد يصل فيه ماكرون الى بيروت مساء، أنه لم يقترن بتسريب او إيحاء حول اسم الشخصية التي ستكلّف تشكيل الحكومة، كما لم يقترن تحديداً بأنّه انطلقَ من خلفية التوافق المُسبق على شخصية الرئيس المكلف، ولو كان هذا التوافق موجوداً لتحدد موعد الاستشارات اليوم برغم العطلة الرسمية، أو غداً، وليس الانتظار الى الاثنين.
وفيما قالت بعض المصادر انّ مبادرة رئيس الجمهورية بتحديد الموعد الاثنين، تُعتبر خطوة لِحشر الاطراف المعنية بالملف الحكومي وحثّها على التوافق على رئيس الحكومة. وهو بتحديده موعد الاستشارات الاثنين، يعطي مهلة 72 ساعة لهذه الاطراف لحسم هذا التوافق، الّا انّ اللافت كان تغريدة رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط التي كتب فيها: «بعد تأخير في الدعوة الى الاستشارات ومخالفات الطائف، كأنّ بعض القوى السياسية تختبر مسبقاً دستوراً جديداً، وبعضها ينادي به جهارة، تحددت الاستشارات نهار الاثنين حياء، كون الرئيس ماكرون سيأتي الثلاثاء».
وبحسب مصادر سياسية معنية بالملف الحكومي، فإنّ موعد الاستشارات الملزمة، وعلى رغم تأكيد مصادر في بعبدا انّ هذه الاستشارات لن تتأجّل وعلى رغم مبادرة رئاسة الجمهورية إلى توزيع جدول لقاءات رئيس الجمهورية بالكتل والنواب، يبقى عرضة للتأجيل في حال لم يتم التوافق على اسم لرئاسة الحكومة. ومن هنا، تحرّكت اتصالات مكثّفة في الساعات الماضية لِحسم اسم رئيس الحكومة العتيد، ولا سيما بين الثنائي الشيعي و»التيار الوطني الحر»، وبين المراجع السنية السياسية والدينية، وكذلك على خط عين التينة وجنبلاط، وما بين الثنائي وتيار المرده وسائر الحلفاء.
وبحسب معلومات «الجمهورية» فإنّه حتى ما بعد إعلان مواعيد الاستشارات الملزمة، فإنّ الرئيس سعد الحريري لم يكن قد سمّى أحداً لرئاسة الحكومة، وذلك التزاماً منه بما سَبق وأعلنه بأنه لن يسمّي أحداً او يغطّي أحداً من المقرّبين منه لرئاسة الحكومة. هذا في وقت كانت فيه بعض الاسماء تُطرح بشكل مُتتال وتُدخَل الى نادي المرشحين، ولا سيما اسم الرئيس تمام سلام، الذي أكدت أوساطه لـ»الجمهورية» انه ليس معنيّاً على الاطلاق بكل ما يتعلق بطرح اسمه لتشكيل الحكومة، وانه بالتالي لن يكون مرشّح امر واقع، علماً انّ للرئيس سلام، وبناء على تجربته السابقة في رئاسة الحكومة، موقفاً معروفاً بأنّه يرفض بشكل قاطع ونهائي تشكيل حكومة في عهد عون ووجود جبران باسيل ربطاً بمعاناته معهما في فترة تَرؤسه الحكومة».
هذه المواقف تزامَنت مع اجتماع عقده الرؤساء السابقون للحكومات، الحريري والسنيورة وميقاتي وسلام، من دون ان يتم الإعلان عن أيّ قرار بشأن التسمية في الإستشارات النيابية الملزمة، وقد تم الاتفاق على إبقاء الاجتماعات مفتوحة.
في هذا الوقت، أبلغ معنيون بالملف الحكومي الى «الجمهورية» قولهم: انّ كرة «حسم الموقف» هي ملعب الرئيس الحريري، والاتصالات التي تكثّفت معه في الساعات الماضية، وخصوصاً من قبل الثنائي الشيعي، لم تتوصّل الى حسم الموقف نهائياً من جانب الحريري. الّا انّ مطّلعين على أجواء هذه الاتصالات يقاربونها بإيجابية، ولا يقطعون الأمل في ان تُترجم هذه الايجابية، خصوصاً انّ هناك ثغرة قد فتحت، وقد يُبادر الحريري، من خلالها وبعد حسم عدم ترشيح نفسه نهائيّاً، الى ترشيح اسم محدد لرئاسة الحكومة يتم التوافق عليه.
ويضيف هؤلاء: انّ كرة «حسم الموقف» ايضاً هي لدى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، والاتصالات الجارية مع اتجاههما لم تبدّل حتى الآن في الموقف المتصَلّب حيال الحريري شخصياً، ورفض عودته الى رئاسة الحكومة.
الّا انّ المصادر تلفت الى انّ الاتصالات تتركز حالياً على حسم موقف الحريري، إذ يخشى مع التأخّر في ذلك أن تظهر تعقيدات غير متوقعة تعيد إقفال تلك الثغرة، وقالت لـ»الجمهورية»: الحريري وباسيل دخلا لعبة تحدٍ واضحة، أقرب الى معركة كسر عظم بينهما، فالحريري يرفض في المبدأ عودة باسيل، وحكومة تكون يَده، أي باسيل ومن خلفه الرئيس عون، مُطلقة فيها، ولن يغطّي اي شخصية لرئاسة حكومة تمنح باسيل حرية كَربَجتها وتعطيلها والتحكّم بقراراتها، وقرار الحريري حاسم في هذا الاتجاه.
في المقابل، تمنّى مرجع سياسي عبر «الجمهورية» أن نصل الى خواتيم إيجابية، والتوافق على اسم رئيس الحكومة قبل الاثنين، وإلّا فإننا سنغوص في تعقيدات أعمق ممّا هي عليه الآن.
واستبعد المرجع تكليف رئيس الحكومة بمعزل عن الرئيس الحريري، وقال: الحل الأمثل للوضع الحكومي حالياً هو تشكيل حكومة برئاسة الحريري، امّا اذا كانت ثمة ظروف واعتبارات لديه تحول دون ذلك، فالحلّ الآخر هو اختيار شخصية بديلة بالتوافق معه، على أن يُصار بعد ذلك الى تشكيل حكومة مختلطة من اختصاصيين في أكثريتها، محصّنة بعدد قليل جداً من السياسيين (ليسوا وجوهاً مستفزّة) ولا يتولون حقائب أساسية (وزراء دولة)، وتنطلق بالعمل السريع بعيداً عن الكيدية والانتقام، وفق برنامج إصلاحي حقيقي تُخاطب فيه الداخل والمجتمع الدولي بمجموعة خطوات إصلاحية متتالية في كل القطاعات وفي مقدمها الكهرباء، على ان يقترن عملها بإقرار مجموعة قوانين إصلاحية أهمها استقلالية القضاء، وتنهض بالبلد.
ومع «الاجتياح الكوروني» للبنان المستمر منذ شباط الماضي، وغياب الوعي وانعدام إرادة مواجهته، ولو بالحد الأدنى من الاجراءات الوقائية البديهية، صار على المواطن اللبناني ان يحضّر نفسه للأسوأ، والمصيبة الكبرى عندما يأتي هذا «الأسوأ»، اذ لن ينفعه ندم، ولن يوفّر له تراخيه المتمادي به بكل مكابرة ولا مسؤولية، ومساهمته عن قصد متعمّد في توسيع انتشاره، حصانة او مضاداً للحال الكارثي، الذي سيهبط إليه هو والبلد معه. فهل هذا هو المطلوب؟ وهل هذه هي النهاية التي يريدها المواطن لنفسه وأهله ومجتمعه وكل البلد؟