يعد سور الصين العظيم، الذي يمتد ملتويا لمسافة 21 ألف كيلومتر شمالي الصين، واحدا من أشهر إبداعات البشر في العالم. وقد اختير في عام 2007 كإحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة، جنبا إلى جنب مع تاج محل ومدرج الكولوسيوم في روما.
وأدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ضمن قائمة التراث العالمي في عام 1987.
وعندما يزور السياح بكين، فإنهم يتوافدون على الأجزاء الأشهر من سور الصين العظيم، لكن القليلين منهم يزورون الجزء الأقل شهرة منه.
إذ يمتد جزء من السور، يعرف باسم جيانكو، لمسافة 20 كيلومترا على قمم جبال خضراء حادة. ولو نظرت إليه من الوادي، سيبدو كالأكاليل التي تزين قمة كل جبل.
ويقع هذا الجزء من السور على بُعد 100 كيلومتر من بكين، لكنه يختلف تماما عن الأجزاء المجاورة من السور. ففي محيط سور جيانكو، لا أثر لمتجر هدايا أو عربات معلقة، ولا أحد يقف لبيع التذاكر. ولكي تصل لهذا الجزء من السور، عليك أن تسير لمدة 45 دقيقة أعلى الجبل.
ولم تجر في جزء جيانكو من السور أي عمليات ترميم أو إصلاح حتى وقت قريب. ومنذ قرون، لم تمس يد البشر هذا الجزء من السور الذي بني في القرن السادس عشر ومستهل القرن السابع عشر. وقد تهالك هذا الجزء، خاصة لمسافة سبعة كيلومترات، وتحولت الأبراج الشامخة مع مرور الوقت إلى تلال من الأنقاض.
وانهارت أجزاء من السور تماما، وأصبحت الأجزاء التي كانت واسعة من السور تكفي بالكاد لمرور شخص واحد فقط. وشقت الأشجار طريقها عبر أرض السور، ليبدو أقرب إلى الغابة منه إلى الحصن.
لكن هذا الجزء من السور، رغم خطورته، يتميز بمناظره الطبيعية البكر الخلابة. ويقول ما ياو، مدير مشروع حماية السور العظيم بمؤسسة “تينسنت” الخيرية، التي مولت عمليات الترميم الأخيرة: “يموت شخص أو اثنان سنويا في هذا الجزء من السور. بعضهم يسقط صريعا أثناء السير، وبعضهم تصيبه الصواعق”.
ولمنع المزيد من الكوارث، والحفاظ على السور للأجيال القادمة، بدأت أعمال الترميم في عام 2015. وجلست مع ياو على السور، قرب اكتمال المشروع، وامتدت أمامنا القمم التي يعلوها الحصن على مرمى البصر. ويقول ياو إن “الآلات لا يمكنها الوصول إلى هنا، ولهذا نفذ العمال جميع الأعمال دون استخدام آلات. لكننا استعنا ببعض الأجهزة والتقنيات الجديدة لمساعدتهم في إنهاء الأعمال اللازمة بإتقان”.
وفي عام 2019، استُخدمت الطائرات المسيرة وتقنية إعداد الخرائط ثلاثية الأبعاد وخوارزميات الكمبيوتر التي استدل بها المهندسون لمعرفة ما إن كان من الأفضل إزالة الأشجار من الجسر أم تركها في مكانها.
ويقول ياو إن هذه التقنيات ساعدتهم في ترميم السور بالطرق التقليدية.
ويشغل السور العظيم مساحة شاسعة شمالي الصين، من إقليم منشوريا إلى صحراء غوبي ثم البحر الأصفر. ويحمل السور تاريخا عريقا، إذ شيد قبل أكثر من ألفي عام، في الفترة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن السابع عشر ميلاديا، في عهد 16 سلالة حاكمة.
إذ شيدت أسرة مينغ الجزء الأطول والأشهر من السور، بما في ذلك جزء جيانكو، من عام 1368 إلى 1644. وكشف مسح أجرته إدارة التراث الثقافي الوطني في الصين، أن سور مينغ يمتد لمسافة 8.851 كيلومترا، ويتضمن خنادق لمسافة 359 كيلومترا و25 ألف برج حراسة.
وقد اختفى اليوم ثلث الحصون الأصلية التي شيدت في عهد مينغ، ولم يتبق منها سوى ثمانية في المئة في حالة جيدة. ويواجه السور الكثير من التهديدات، من عوامل التعرية الطبيعية، كالرياح والأمطار، إلى الأنشطة البشرية، مثل أعمال البناء وحتى سرقة اللبنات من السور وبيعها، ناهيك عن الضرر الذي تسببه الأعداد الكبيرة من الزوار الذين يسيرون جيئة وذهابا على السور.
ويقول المؤرخ والمناصر لحماية البيئة ويليام ليندساي، في إشارة إلى بكين: “على مرمى حجر يعيش 20 مليون شخص، وقد يضر وقع الأقدام بالسور”. وكرس ليندساي حياته لإجراء أبحاث وتأليف كتب عن السور وخوض معارك لحمايته.
وقد رأى ليندساي، الذي ينحدر من إنجلترا، السور على الخريطة منذ أن كان صبيا في عام 1967، وقرر استكشافه. وفي عام 1987، وبعد ثلاث سنوات من زيارة سور هادريان في اسكتلندا الذي جعله يستعيد شغف الطفولة، كان ليندساي يسير بقدميه على سور الصين العظيم.
ويمر زائر السور ببستان فاكهة ثم غابة، وتنتشر في الطريق لافتات تدعو الزوار للمحافظة على السور، مثل “التراث الحضاري الصيني ملك للعالم ويتحمل الجميع مسؤولية حماية السور”، و”لا تأخذ سوى الصور، ولا تترك سوى آثار أقدامك”.
وقد صعدت إلى السور أربع مرات، لكنني لم أصادف سوى زائرتين مرة واحدة، وأصرتا على التقاط صورة معي، فهذه الأجزاء من السور نادرا ما يزورها سياح أمريكيون.
وبدت في الأفق السقالات التي وضعت لترميم السور، فمن المتوقع أن تكتمل المرحلة النهائية من المشروع بعد شهور عدة.
لكن ترميم السور قد يتعارض مع جهود الحفاظ عليه. فقد يفقد الأثر نكهته وخصوصيته، في حالة المبالغة في ترميمه، كما حدث مع بادلاينغ، الجزء الأكثر شعبية من السور. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، استخدم في إعادة بناء هذا الجزء من السور لبنات جديدة وأسمنت حديث. واليوم يغطي جزء كبير منه الكتابات والرسومات الجدارية.
وراقبت مجموعة من البغال بالقرب من السقالات تحمل أكياسا ضخمة من الرماد الأبيض. وأخذ أحد العمال يخلط الرماد لتشكيل ملاط سميك، إذ لا يستخدم العمال في ترميم السور الخرسانة الحديثة. وبسط آخرون الملاط على اللبنات ووضعوها بحرص وسط الجدار.
وعندما تسلقت الجزء الذي يخضع للترميم، وجدته مختلفا تماما عما كان سابقا، إذ لم يتبق به إلا القليل من الأشجار وسط اللبنات، وكان أحد أجزائه شديد الانحدار إلى درجة أن أحدا لا يستطيع السير فيه من دون الحبال.
وأشار زاو بينغ، كبير المصممين بمشروع الترميم، إلى الإصلاحات التي أجريت في السور، التي كان أهمها تغيير اتجاه تدفق مياه الأمطار للمحافظة عليه من التآكل بفعل المياه. ووضع الفريق فتحات وقنوات لتصريف المياه واستخدموا لبنات جديدة، أكثر سمكا، في الأجزاء التي قد تتجمع فيها المياه، حتى لا تخترق المياه هذه اللبنات.
ويقول بينغ إن الفريق كان يجري الحد الأنى من الإصلاحات في السور. إذ كان الفريق يجري عمليات فحص دقيقة للسور ويسجل مواطن الخلل والتصدعات، ثم يضع الخطط لإصلاحها مع مراعاة الحفاظ على السور.
ويساعد الفريق المهندس شانغ جينيو، من كلية الآثار بجامعة بيكنغ، في العاصمة بكين، إذ يستخدم فريقه طائرة مسيرة تلتقط 800 صورة في نصف يوم للجزء الذي يخضع للترميم. ثم يستعين الفريق بهذه الصور لبناء نموذج ثلاثي الأبعاد للسور يتضمن كل لبنة وصدع في الجدران.
وقد ساعدت هذه البيانات فريق التصميم في ترميم السور بأقل قدر من التدخل. ويقول بينغ إن أحد الشروخ كان يتعذر فحصه يدويا لأنه كان يوجد في أحد الأبراج. وقد ساعدتنا الصور التي التقطتها الطائرات المسيرة في تحديد حجم الشرخ ودرجة ميل السور وتحديد مدى ثباته.
ويقول زاو إن هذه البيانات تسجل خطوات كل مرحلة من مراحل الترميم. ويضرب مثالا على ذلك بعملية ترميم أحد الأبراج الذي كان سطحه مغطى بالأشجار. واضطر الفريق لنزع اللبنات من أجل اقتلاع هذه الأشجار.
وبفضل التقنيات الحديثة، استطاع الفريق إعادة اللبنات إلى مكانها بدقة، من خلال إعداد نماذج محاكاة لمواضع اللبنات الأصلية. ويقول زاو إن البرج الآن بعد الترميم لا يزال يحتفظ بمظهره التاريخي.
وأعدت شركة “إنتل” العملاقة للتكنولوجيا نموذج محاكاة ثلاثي الأبعاد للسور، بناء على 10 آلاف صورة التقطتها طائرتها المسيرة. وقدمت إنتل النموذج الخاص بها للمؤسسة الصينية الوطنية للحفاظ على التراث الثقافي التي شاركت في مشروع ترميم السور.
وتستعين الآن فرق التصميم والترميم بهذه التقنيات الحديثة في تنفيذ أعمال ترميم جزء آخر من السور تبلغ مساحته 900 مترا، ويوجد جزء منه تحت الماء.
وعندما انتصف النهار، رأيت نملا ضخما ونحلا في حجم الإبهام، إذ يبدو أن كل شيء هنا كالسور، كبير الحجم. وغلب النعاس العمال بعد يوم عمل طويل، بدأ بالسير أعلى الجبل منذ بزوغ الفجر. ورغم أن التقنيات المتطورة ساعدت فريق التصميم، فإنها لا تغني عن العمل اليدوي باستخدام المطارق والأزاميل.
وساد صمت لم يقطعه سوى صوت أربعة متسلقين، حذروني من المضي نحو أحد الأقسام من السور كونه شديد الانحدار بعد أن سقط جزء منه.
ومن الواضح أن أحدا لا يعبأ باللافتات البيضاء التي كتب عليها بلغة الماندرين “يُمنع دخول السياح”، إذ لم يفتح السور رسميا بعد للجمهور. لكن هذه اللافتات ستختفي مع انتهاء عمليات الترميم، كما سيختفي أيضا هذا الهدوء، ولن يخشى الناس من الاقتراب من السور “البري”.
ربما يكون السور الآن أقل خطورة بعد الإصلاحات، لكنه لا يزال يذكرنا بالقرون الخالية التي لم ترسم معالم الحصون فحسب، بل أسهمت في تشكيل الصين نفسها. ولا يزال سور جيانكو بعد ترميمه يتمتع بسماته البرية.